مصادرة الحيز الثقافي والسياسي العام في البلد - سوق الناصرة، إعفاء من ضريبة البلدية (الارنونا) نعم ام لا؟

من الجوانب المنعشة في الإنتخابات المحلية في الناصرة انه لا تخلو من محفزات لطرح ونقاش قضايا محلية تخص الناصرة وإن قلت للأسف المساحات والمنابر الملائمة لنقاش موضوعي لهذة القضايا بعيداً عن الدعاية الإنتخابية البحتة وعن المناوشات الحزبية والشجار الحزبي العام.

سوق الناصرة / البلد القديمة، مركز البلد وقلبها النابض على مدار التاريخ، تحول مع العقد الثاني من الألفية الى افقر احياء الناصرة واكثرها تهميشاً. بين الحين والأخر تطرح بعض الافكار والاقتراحات من اشخاص تهمهم مصلحة البلد لكن تبقى هذة الأفكار مجرد افكار واقتراحات عابرة يطرحها هذا او ذاك خارج سياق أي خطة شاملة وبعيدة عن مواقع التأثير وعن مواقع أتخاذ القرار.

من الأقتراحات التي تسمع مراراً وتكراراً حول السوق وضرورة النهوض به هو إعفاء سكان حي السوق من ضريبة البلدية (الارنونا)، ولا شك في النوايا الحسنة لكل من يطرح الموضوع، لكن للأسف الشديد النوايا الحسنة لا تضمن الوصول الى نتائج مرضية. فإن تمعنا في الموضوع نجد ان الاعفاء من الضريبة له وجهين حيث ان إعفاء شامل للسكان والتجار سيزيد الوضع سؤ، اما اعفاء ضريبي يقتصر على التجار فقط  فله ان ينهض بالسوق وربما بمرافق أخرى بالبلد تبدو للوهلة الاولى بعيدة كل البعد ولا تمت للسوق بصلة. لكن قضايا البلد، تترابط كلها بشبكة علاقات مذهلة ومثيرة ولا يمكن التطرق الى قضية معينة بمعزل عن القضايا الأخرى.

لقد ابتدأت هذا المقال بستاتوس فيسبوكي كان من المفروض ان يكون قصيراً الا انه انتهى بثلاث صفحات من الملاحظات المتراصة والمتشابكة حول ضريبة الارنونا بالسوق وعلاقتها مع أزمة السير في البلد ومع جودة الحياة الثقافية والسياسية للفلسطينين في الداخل وللفلسطينين عامة، وسأحاول هنا ربط الأمور بشكل واضح وسلس على أمل ان استطيع طرح قضية إحياء السوق وعلاقتها مع مرافق الحياة الأجتماعية والسياسية والأقتصادية في البلد من منظور جديد ومختلف. عسى ان يقراء رئيس\ة البلدية القادم\ة واعضاء البلدية المستقبليون إن كانوا في الائتلاف او المعارضة هذة الملاحظات وعسى ان يكون لها تأثير مستقبلي على السوق وعلى التخطيط له.

الضريبة كمحفز أقتصادي لاهداف سياسية اجتماعية
الضريبة عامة عدا عن كونها مصدر دخل اساسي للسلطة لكنها بالأساس محفز اقتصادي توجه مسارات اجتماعية ثقافية وسياسية وتأثر على خيارات الناس وعلى اهوائهم. بعض الخيارات قد تكون "صلبة" او "متينة" لا تتأثر بمحفزات أقتصادية او غيرها، وبعضها الأخر قد يكون أكثر مرونة.  (مثلاً مياه الشرب حتى لو كان ثمنها 10 شواقل للتر لا مجال للمساومة او التنازل عن كمية المياه الأساسية اللي يحتاجها الجسم، فهذة حاجة "صلبة" لن تتأثر بمحفز اقتصادي، اما استهلاك مياه الري للحديقة او لحمام السباحة فهو "مرن" أكثر ويتأثر بشكل أكبر من المحفزات الاقتصادية الإيجابية او السلبية).

خصوصية السوق التاريخية، التراثية والثقافية
اعفاء من ضريبة الارنونا لسكان السوق له أبعاد وأسقاطات على السوق خاصة وعلى البلد عامة، وقد يكون لهذا الأمر ضرر للمدى البعيد اكثر من الفائدة التي قد يجنيها في المدى القريب. فالسوق وبكونه النواة التاريخية للبلد هو منطقة ذات ميزات تراثية وثقافية من المهم الحفاظ عليها، ومن بين هذة الميزات نمط البناء القديم والمتراص وزقاقات ضيقة بالكاد تتسع الى عربة صغيرة. ومن خصوصية السوق تنبع خصوصية السكن فيه حيث ان لهذا السكن ميزات وحاجات او ربما مشاق خاصة تختلف عن السكن في الأحياء الأخرى. ومن أبسط الأمور اليومية التي يواجهها سكان البلدات القديمة هو وصول او عدم وصول السيارات الى "باب الدار" او الى "باب المحل" أضافة الى أمور أخرى لن اتطرق لها هنا ولن يتسع لها هذا المقال. من هنا فإن السكن في حي لا تتسع أزقته لسيارة او لشاحنة نقل يتطلب جهد خاص من سكان الحي، وهذا الجهد يشمل الجهد الجسماني الفردي، حيث يضطر الأفراد السير مشياً على الأقدام مسافة معينة حتى الوصول الى البيت، بالأضافة الى جهد أقتصادي حيث تتكلف العائلة او الفرد بمصروفات خاصة قد لا يضطروا اليها في الأحياء الأخرى. وبالرغم من الصعوبات المرافقة للسكن بمكان تراثي قديم نجد أن الكثير من "مراكز البلد القديمة" في العالم (التي تشبه السوق وتم الحفاظ على بُنيتها المعمارية الثقافية التاريخية كما هي) تعج بالسكان، فالعديد من الناس قد يحلو لها السكن في هذة المناطق بالرغم من الصعوبات المرتبطة بذلك.

سوق الناصرة وخيارات السكان في البلدة القديمة 
في مجتمع عادل لا بد أن ينبع السكن في مكان قديم وتراثي كالسوق من خيار وليس من ضيق حال او قلة خيارات. وعودة الى الناصرة فلا بد لنا أن نسأل هل سكان البلدة القديمة في الناصرة اليوم يسكنوها بالرغم من كل الصعوبات من منطلق خيار حر وفرص عادلة ومتساوية ام من ضيق حال وقلة خيارات؟

اذا تمعنا في الفئات التي تسكن سوق الناصرة اليوم ممكن التمييز بين فئتين اساسيات: الفئة الأولى هي فئة مقتدرة موجودة بالسوق أباً عن جد وأمكانياتها الأقتصادية توفرلها خيارات واسعة لكن خيارها هو البقاء في السوق. الفئة الثانية هي فئة الناس "العلقانيين" بالسوق لأسباب أقتصادية ولإنعدام فرص ملائمة تمكنهم من الأنتقال الى اماكن سكن أخرى ومنهم "الملاكون" ومنهم "المستأجر المحمي".

الأنتقال للسكن الى اماكن أخرى ليس بالضرورة بيع أملاك (ولا نغفل عن الحساسية الوطنية لموضوع بيع الاراضي والاملاك) بالعكس في الحالة الطبيعية ممكن تأجير الملك لمن يرغب بذلك، لكن بوضوع السوق القائم اليوم (كل شي فيه ميت) فإما ان تسكن البيت الموجود في السوق أو تغلقه وتتحمل نفقة ضرائبه بالرغم من عدم السكن فيه. ونجد اليوم العديد من البيوت في السوق مغلقة لعدم ارادة مالكها تحمل مشاق السكن في الحي القديم ولإنعدام الخيارات الاخرى كالبيع او الإيجار. بالرغم من القدرة الأقتصادية لبعض المالكين الذين أنتقلوا للسكن خارج السوق لكن الضريبة المفروضة على البيت المغلق تشكل عبئ اقتصادي على العائلة ومن هنا قد يرضخ بعضهم، وربما قلة منهم وقد يكونوا الأضعف منهم، الى اغراءات او لربما ضغوطات البيع وذلك لصعوبة تحمل النفقات. من هنا فإن السكن بالسوق عبئ على الراحة الشخصية لمن يسكنه، وعبئ مادي على من يختار الخروج منه. وعلى هذا الأساس يُطالب من يُطالب باعفاء السوق وأهل السوق من الأرنونا، لتشجيع السكن فيه اولاً ولتدعيم اصحاب الملك والتصدي للضغوطات الأقتصادية ولأمكانيات البيع الغير مرغوبة والغير محبذة سياسياً واجتماعياً.

التعمق في المسارات الاجتماعية والأقتصادية التي سيقود اليها هذا الأعفاء يكشف عن صورة مختلفة بتاتاً عن ما قصده كل مُطالب. فإذا كان السؤال الأول هو: هل من يسكن السوق اليوم موجود فيه من خيار ام من قلة فرص وأمكانيات؟ فالسؤال الثاني هو: كيف سيؤثر الأعفاء من ضريبة الأرنونا على وضع السوق وعلى سكانه؟ وللإجابة على هذا السؤال يجب التمييز بين أمرين: الأول، اعفاء البيوت السكنية من الأرنونا، والثاني، اعفاء المصالح والحوانيت التجارية من الأرنونا.

الأعفاء من الأرنونا للسكان دعم أم حصر وإستهداف؟
أعفاء البيوت السكنية من الارنونا قد يكون خطأ فادح بحق السوق وبحق سكانه، فالمُثقل والمُتعب من صعوبات الحياة في احياء السوق سينتقل منه الى حي أخر تسهل الحياة فيه ان توفرت له الامكانية الأقتصادية لذلك حتى وان تكلف عبئ ضريبة الأرنونا في الحي الأخر، ومن سيبقى في السوق هم اولائك المغرمين به او المستضعفين والمنهكين أقتصادياً حيث يمكنهم تحمل عبئ الأرنونا في حي أخر. لا بل وسيجتذب هذا الأعفاء أشخاص اخرين مستضعفين اقتصادياً من خارج الحي وسيعمل كمحفز أقتصادي مضاعف يجمع ويركز المستضعفين في حي واحد ويحصرهم به.

كذلك هو الامر بالنسبة للمنح والدعم والمعونات التي تهبها المؤسسات الحكومية بواسطة البلدية لسكان السوق حصرياً. فعمليا هذة المنح هي نوع من "فخ" يقع فيه سكان السوق والبلدية على حد سواء،  فمفعول هذة المنح والمعونات كالمغناطيس يجتذب الى السوق المحتاجين والمعوزين رغما عن خصوصية الحياة ورغما عن مشاق الحياة فيه. وبهذا يركز هذا الدعم بعكس غايته المعلنة مجموعة مستضعفة من الناس في منطقة معينة مما يُضعف حالها اكثر ويضعف المنطقة كلها ككُل. ولنا انا نرى في هذا استهداف ثقافي سياسي للبلد القديمة في الناصرة يهدف الى تركيز الفئات المستضعفة في السوق وإلى استضعاف السوق كمركز عام للبلد.  

اما لو تم توزيع الدعم البلدي المادي على كافة المحتاجين من السكان بدون اعطاء افضليات لحي على أخر فعمليا لا يقوم حي بذاته بإجتذاب المستضعفين، انما يتوزع الفقراء والمستضعفين على كافة المناطق في المدينة وتتوسع الفرص والخيارات العامة المفتوحة بما فيها خيارات السكن وفرص الخروج من دوائر الفقر.

الأعفاء من الأرنونا لأصحاب المصالح التجارية
اما بالنسبة للحوانيت والمصالح التجارية فمن الواجب بل من المفروض في ظل الوضع الراهن (السوق ميت منذ سنوات و90% من حوانيته مغلقة) ان تعطي البلدية اعفاء من ضريبة الارنونا لهذة المصالح التجارية وهذا الاعفاء سيعود بالفائدة على السوق والبلد عامة بعدة مستويات:
1)      محفز اقتصادي للتجار واصحاب الحرف واخرين للعودة الى السوق بالرغم من صعوبة وصول سيارات الزبائن وشاحنات مزودي البضائع لباب المحل.
2)      دعم لمن يختار السوق تجاريا وثقافيا واقتصاديا وتخفيف من شدة وعبئ المنافسة الأقتصادية والمنافسة على راحة الزبائن بين السوق واماكن أخرى مثل، المجمعات التجارية الحديثة التي تنعم بمواقف سيارات تتسع لكل من يشاء، والمحلات التجارية على الشوارع الرئيسية للناصرة والتي سيطرت بغير حق على الرصيف او على الشارع امامها وحولتهم لموقف خاص لزبائن المحل على حساب المشاة والسائقين ورواد الشارع عامة.
3)      اعادة النشاط الإقتصادي والتجاري والثقافي الى السوق سيفتح فرص عمل جديدة امام كافة سكان البلد، وسيزيد من الفرص الإقتصادية لسكان السوق واصحاب الأملاك فيه وسيخفف من حدة الطلب والضغط على شوارع البلد بما فيها تخفيف أزمة السير الخانقة، وطبعا لا بد وان يرتبط الأمر بتطوير مواقف سيارات محاذية للسوق من جهاته المختلفة.
4)      أعادة الحياة الأقتصادية والتجارية الى السوق قد تجتذب اليه حياة ثقافية وأجتماعية وسياسية متجددة وقد يختار البعض ممن اغلق بيوتهم في السوق العودة الى السكن فيها او قد تسنح لهم الفرص بتأجيرها لمن يرغب بالسكن في السوق عن خيار ورغبة بالمكان بالرغم من صعوبات التنقل وخصوصية الحياة فيه. وفي ظل الضائقة السكنية اللي تعاني منها البلد باعتقادي أن السوق حي كبير له القدرة على استيعاب عدد لا يستهان به من السكان، وقد يضاهي بسعته وقدرته الأسكانية أحدث احياء الناصرة.
5)      واخيراُ وبكون الناصرة المدينة الفلسطينية المخضرمة الوحيدة في الداخل، وبها من تراث معماري وإن كان ضئيل مقارنة مع المدن الفلسطينية الأخرى ما يستحق الحفاظ عليه. وبكونها أكبر مدينة في الداخل ومن المفروض ان تكون مركز حياة ثقافي وسياسي فمن الممكن أن يكون هذا الأعفاء الضريبي خطوة صغيرة تعود بالفائدة على اصحاب المتاجر الا انه قد يكون لها أثر كبير في إعادة الحياة الثقافية والسياسية الى الناصرة برونقها وخصوصيتها المحلية ومكانتها لأهلها في الداخل والخارج عامة.

"البيج" سوق الناصرة ومشتقات الحياة التجارية في البلد
 وللنهاية لا يسعني ان لا أتطرق الى خصخصة الحيز العام في الناصرة (أو مصادرته) عن طريق خصخة مرافقها التجارية والاقتصادية. فالصورة المرفقة لسوق مدحت باشا المنقولة عن صفحة حارات دمشق القديمة أستوقفتني وبشكل غريب جداً ذكرتني بالمجمع التجاري "بيج". وعامة فإن المجمعات التجارية الحديثة  أستبدلت المجمعات التجارية التقليدية وهي ما عرفت ب "الأسواق". النشاط البشري في المجمعين التقليدي والحديث مشابه جداً ففي الأثنين تقوم بركن السيارة بموقف خارج المجمع وتنتقل مشياً على الأقدام بين الحوانيت لفترة زمنية معينة تختارها اما للتنزهة او التسكع او لقضاء حاجات عينية. وكالمجمعات الحديثة المجمعات التجارية التقليدية لم تخلو هي ايضا من المقاهي والمطاعم والكافيتريات التي يمكن قضاء الوقت فيها مع الاولاد والأصدقاء، وبعضها مسقوف هو أيضاً فيحمي المتسوقين الاجواء المتقلبة ومن شمس الصيف ومن مطر الشتاء. 
.

الفرق الأساسي والجوهري بين السوق التقليدي  والمجمع التجاري هو **خصخصة الحياة التجارية في البلد** ويشتق منها بشكل مباشر خصخصة الحياة العامة واختزال الحياة الثقافية والسياسية وبما فيها الحقوق السياسية والثقافية للسكان كأفراد. فعمليا في السوق التقليدي لكل تاجر دكانه، بعض الدكاكين المجاورة قد يمتلكها شخص واحد لكنه لا يمتلك كل السوق. الشارع في السوق التقليدي هو ملك عام يحق لكل مواطن التصرف به وممارسة حقوقه السياسية به كما يحق له التصرف باي شارع او ساحة عامة او دوار. اما المجمعات التجارية الحديثة ولن اتطرق هنا الى معمارية هذة المجمعات، فلقد صادرت إضافة الى الملك الخاص الحياة في الحيز العام المنبثقة عن الحياة التجارية في البلد. فكما ان الدكان ليس ملك صحابه فكذلك الشارع او المساحة ما بين الدكاكين ليست ملك عام. الكل ضيوف عند مالك المجمع، هو يتحكم به ويديره وفقاً لاهوائه ووفقاً لما يحلو له وما يشاء. فيختار ما يعجبه من موسيقى ويث لنا ما يروق له من إعلانات، يتيح التسوق والتسكع في الأيام والمناسبات اللي تروق له ويغلقه في الأيام التي لا تروق له. وفي الناصرة تحديداً يمنع اغلاقه في أيام الأضراب ويفرض تشغيله في أيام الحداد. صاحب الملك هو يقرر لمن يأجر ولمن لا وبأستطاعته تهذيب التجار والتحكم بأرزاقهم، فهذا الحيز ملكه الخاص وقانونياً له أن يصنع به ما يشاء.

المجمع التجاري "بيج" ومجمعات تجارية أخرى تعود ضرائبها الى نتسيرت-عيليت تتغذى على فشل وانهيار الحياة التجارية في سوق الناصرة. خصخصة ومصادرة النشاط التجاري لا تقتصر على خصخصة الأرض والمساحات التجارية فقط بل تطول الحيز العام للبلد وتختزل الحياة الثقافية والسياسية اليومية فيها وما ينبثق عنها من نشاط وممارسة للحقوق الثقافية والسياسية للأفراد في الحيز العام. ففي المجمعات التجارية الخاصة نتحول جميعاً الى رهائن منهوبي الحقوق، نمارس منها بشكل جماعي متجانس ما يروق للمالك. ففي المجمع التجاري لا تستطيع التواصل السياسي مع المارة وتوزيع المناشير السياسية عليهم، كما ولا تستطيع التظاهر او الأبداع الحر في الشارع او الحيز العام لعدم تواجده ولفقدانه من الحياة العامة للمدينة. كذلك لن تسمع أغنية ثورية في احد المقاهي فكل ما تسمعه تشاهده وتتلقاه منوط بتصريح المالك ومن المفروض ان لا يقض راحة المتسوقين وان لا يخل بمتعة التسوق والأستهلاك.

للخلاصة..
وفقط للتذكير كل هذا كان في محاولة للأجابة على السؤال: أعفاء من ضريبة البلدية (الارنونا) كوسيلة لإحياء السوق نعم او لاء؟ وبشكل غير مفاجئ يفرض الواقع علينا علاقات وديناميكيات متشابكة ومركبة لا تقل تشابكا وتركيبا عن الحياة اليومية للفلسطينيين في الناصرة. وللخلاصة الأعفاء الضريبي لأصحاب المصالح التجارية في السوق قد يعود بالفائدة على البلد وأهلها بكافة الأبعاد اما الأعفاء الضريبي للسكان فما هو الا "فخ" يزيد من أستضعاف الحي وسكانه فيسهل انتهاكه.

-----
نسرين مزاوي - باحثة في علوم الإنسان. خبيرة ومستشارة بيئية مستقلة. ناشطة نسوية. حاصلة على الباكلوريوس في علم الأحياء وعلى الماجستير في إدارة البيئة والموارد الطبيعية.

النسويات والإنتخابات المحلية في البلدات العربية - قضايا الناصرة من منظور نسوي

في الأسبوع الماضي اعلنت عضوة الكنيست حنين زعبي عن خوضها معركة الإنتخابات المحلية كمتنافسة على مقعد رئاسة بلدية الناصرة. وقد فتح هذا الأعلان نقاش تم زج النسوية اليه بالقوة ليتطور الى نقاش حول كون زعبي كإمرأة حاملة لأجندة نسوية في طروحاتها السياسية المحلية والعامة ام لا.

اولاً وللتنويه اود التوضيح أن زعبي ليست أول إمرأة عربية تخوض معارك الانتخابات المحلية على مقعد الرئاسة كما ورد على لسان بعض الصحفيين، فقد سبقتها الى ذلك السيدة فيوليت خوري في سنوات السبعين لرئاسة مجلس كفرياسيف وفي السياق الفلسطيني العام لا بد من ذكر كل من فيرا بابون رئيسة بلدية بيت لحم وجانيت ميخائيل رئيسة بلدية رام الله سابقاً وربما أخريات سهت ذاكرتي عنهم. ولطالما أنتقدت نسويات النهج الذكوري الذي يسعى الى التفرد بمكانة "الأول" و"الأقوى" و"الأنجح" و"الأكبر" وبعكس هذا النهج تشدد نسويات على أهمية العمل الجماعي فلا يفاجئني نهج ذكوري فرداني لهذا الصحفي او ذاك لكن توقعي من نسويات هو الإلمام بالإنجازات النسائية نسوية كانت ام لا وإعطاء كل ذات حق حقها وعدم التعتيم على إنجازات نساء كبيرة كانت او صغيرة لصالح اي من الأخريات.

اعلان زعبي للترشح للرئاسة يتزامن مع حملة تشجيع النساء العربيات على خوض الإنتخابات، وكلا الأمرين يحثان على طرح ونقاش قضايا البلد من أعين النساء وهنا لا بد من السؤال هل تختلف الطروحات النسائية عن طروحات الرجال التي اعتدنا عليها؟ وفي هذا السياق من المهم التوضيح أن المرأة كالرجل لا تختلف عنه سياسيا الا اذا كانت نسوية. فكون المرأة مرأة لا يحتم كونها نسوية (والنسوية هي فكر ونهج سياسي)، وكون الرجل رجل لا يحتم كونه غير نسوي فالعديد من الرجال تستطيع التواصل مع الفكر النسوي السياسي وتستطيع ان تحلل الأمور وأن تأخذ القرارات المناسبة من هذا المنظور. ولن اخوض هنا بين نسوية المساواة  بين الرجال والنساء وبين نسوية التمعن في علاقة القوة والسعي الى ابطالها واكتفي بالقول ان النسوية التي اتبعها وانشدها هي نسوية ابطال علاقات القوة بين الفئات المختلفة للمجتمع وليست نسوية المساواة بما فيها المساواة في عمليات القمع والإضطهاد للأخر. وفي نهاية الأمر لا بد لي من الثناء على ترشح حنين للرئاسة مما فتح وسيفتح مواضيع لم تتداول من قبل وأهمها ما سأطلق عليه اسم "النسوية والقضايا المحلية".

لطالما انشغلت النسويات العربيات في البلاد في قطبين، القطب الأول قطب "القضايا الوطنية" التي ما سأمنا الإنشغال فيها حيث أننا نثبت من خلالها لنا وللأخرين انتمائنا وولائنا الجماعي ونكب يومياً على تجديد عهدنا الوطني الذي ما سئمت القوة الذكورية الأبوية المحافظة من مسألته صباحاً ومساء. ام القطب الثاني فهو قضايا "الجريمة ضد النساء" فبتنا نلعق جراحنا ونلملم دمائنا المراقة عبر كل صوب وجانب. وبين مُسألة الوطنية والجريمة نجحت المنظومة الذكورية الأبوية بأقصائنا، نساء ونسويات، عن القضايا المحلية التي تؤثر على الحياة اليومية لفئة كبيرة من النساء ولم تحظى منا هذة القضايا على القدر الكافي او ربما على اي نوع من الأهتمام.

طبعاً من السهل جداً كتابة الجملة "طرح نسوي للقضايا المحلية للبلد" كعنوان فضفاض لكن من الصعب تفسيرذلك على ارض الواقع حيث أن احزابنا العربية مشكورة (والعائلات والحمائل المتنافسة في بلدات أخرى) لا تقوم بطرح ومناقشة القضايا العينية على الجماهير انما تكتفي بوعود عامة في سياق صراع قوى بحت، فكلٌ يعرضُ نفسه كمخلص البلد من مشاكلها لكن جماهيريا لا يوجد نقاش حول الطُرق الأفضل لحل هذة القضية او تلك. وطبعا غياب النقاش والمواقف والمعايير العامة للقضايا المحلية ينبثق عنه غياب للنقاش وللموافق والمعايير النسوية حولها وغياب للطروحات والبدائل.

فعلى سبيل المثال وليس الحصر، سوق الناصرة (البلد القديمة)، مركز الناصرة النابض حتى سنوات التسعين، وقلبها المنتقل الى رحمته تعالى منذ السنوات الأولى للألفية، هو أحد أهم القضايا الحارقة في البلد وكلٌ يريد إنعاشه وإعادة إحيائه بعضهم يتكلم عن مشروع سياحي، وآخر عن مشاريع تجارية، بعضهم عن إعفاء من الضرائب المحلية وبعضهم عن سيرورات تجدد (gentrification) حتمية لا بد منها. فما هي المواقف النسوية من كل من هذة الطروحات؟ اي منها نسوي واي منها لا؟ وما هو الطرح العيني لكل كتلة انتخابية؟

ولتوضيح أهمية المعايير النسوية في مسارات تنمية وإعمار البلد سأستعين بمثال أخر وهو موضوع أزمة السير وشوارع الناصرة، وقد قامت البلدية الراهنة بمحاولة لحل القضية عن طريق مشروع "البلد سالكة" لكنه لم ينل نجاحاً باهراً. وهنا وهناك نسمع اصوات تنادي بأقامة جسور على مداخل البلد وتوسيع الشوارع في مركز البلد على حساب اراضي خاصة وغيرها من طموحات هندسية واسعة تسهل خروج السيارات من المدينة لكن يسهى من يطرح هذة المشاريع الحالمة ان هذة الجسور ستسهل خروج السيارات لكنها ستسهل أيضاً دخولها الى "خُزق" (ثقب يعني) يُدعى مركز الناصرة. وبالرغم من هذا هذة الطروحات جيدة ولو لكونها طروحات عينية من الممكن نقاشها بشكل موضوعي وعيني.

وكنسويات في تطرقنا لموضوع تخطيط الشوارع والبنية التحتية للمواصلات في البلد لا يمكننا التغاضي عن السؤال من يملك السيارات؟ ومن يقود سيارة ومن لا يقود سيارة؟ من يستعمل المواصلات العامة؟ ومن يمشي في الشارع او على الرصيف إن وجد؟ وما هي حصة النساء من هذة الممارسات اليومية؟ وهل توسيع الشوارع سيخدم النساء وعامة السكان ام سيخدم فئة محددة من الناس وهم أصحاب السيارات؟

أخترت المثال السابق حيث يسهل من خلاله تفسير صلة "النسوية" في قضايا تخطيط وإدارة البلد كما ويمكننا بسهولة الوقوف على اهمية المعايير النسوية التي تعتمد على نظرة تحليلية للأدوار الأجتماعية للرجال والنساء في الحياة اليومية فلكل منهم "وظائف" وتوقعات اجتماعية ملقاه على عاتقهم وهي ما باتت تعرف ب "النوع الإجتماعي" أو "الدور الإجتماعي" أو (الجندر). ومن منطلق الأدوار الأجتماعية المختلفة، فأن التعامل والتفاعل مع الحيز العام يختلف بين الرجال والنساء كلٌ بحسب دوره الإجتماعي وبحسب الوظائف اليومية والتوقعات الملقاه على كل منهم.

فإن تابعنا المثال السابق فأغلب العائلات تملك سيارة واحدة فقط عادة يستخدمها الرجل للذهاب للعمل وقضاء بعض حاجيات المنزل في طريق عودته الى البيت. اما غالبية النساء وطلاب المدارس وفئة معدومي السيارات فيقومون بقضاء حاجاتهم في البلد بالإعتماد على المواصلات العامة او سيراً على الأقدام. واذا تعمقنا في المهام والمسؤوليات الملقاه على عاتق النساء من مراعاة الأمور المنزلية وصحة أفراد العائلة وشؤون تربية ورعاية الأطفال والتسوق والتزود بما تحتاجه العائلة من ملبس ومأكل ومشرب فنجد ان الكثير من هذة المهام تقوم بها النساء مشياً على الأقدام أو بواسطة المواصلات العامة من باصات وتكسيات. 

بالأضافة لا يمكنني تجاهل البعد الطبقي للموضوع، فنجد ان العائلات ميسورة الحال قد تملك سيارتين او اكثر (أحياناً سيارة لكل من بلغ ال 18)، ومن هنا فإن تفاعل نساء طبقة ميسورة الحال مع الشوارع الأرصفة واماكن وقوف السيارات يختلف عن نساء طبقة محدودي السيارات أو معدوميها. وبالرغم من هذا، الأختلاف في الأدوار الأجتماعية بين الرجال والنساء موجود في كل الطبقات. حيث تستعمل نساء الطبقة الميسورة السيارة لنقل الأولاد من مكان الى مكان (من المدرسة الى الصحية الى النادي الى الكشاف ودورات ما بعد المدرسة ومن ثم المشتريات المنزلية والتجول-تسوق في المجمع التجاري وغيرها) بينما يستعمل رجال هذة الطبقة السيارة بالأساس للسفر الى العمل وللقاء الاصدقاء وقضاء أمور ترفيهية. وإن تمعنا في طبيعة عمل الرجال من هذة الطبقة فنجد ان الكثير منهم يعملون خارج المدينة بعكس النساء التي تعمل داخل المدينة بمقربة من المنزل ومن مدارس الأولاد،  وبعكس العمال المكتظين بسيارات المقاولين فإن رجال هذة الطبقة يسافرون فرداً واحد في كل سيارة. وليس لهذا التحليل التحامل على اي من الأفراد في أي من الطبقات انما "لفت نظر" الى الإختلافات الجندرية والطبقية الموجودة بين ابناء البلد الواحدة والتي لا بد وأن تُأخذ بعين الأعتبار عند التخطيط لمشاريع عامة وعند البحث والسعي وراء حلول وآليات ادارة لا بد وأن تكون حكيمة عادلة ومنصفة لأكبر عدد ممكن من السكان.  

من هنا فنسوياً لا بد لنا من إعطاء أولوية في التخطيط للمواصلات العامة على السيارات. وليس لهذا ان يضر في مصلحة الرجال في البلد او اصحاب الحوانيت والمصالح الصغيرة المنتشرة في الشوارع الرئيسية للبلد وازقتها بل على العكس. فلا اجد تناقض جوهري بين مصلحة ربة البيت التي تقوم بالأهتمام بالشؤون المنزلية والعائلية داخل المنزل وخارجه وبين رب وربة البيت الذين يقومن بالعمل خارج المنزل ففي نهاية المطاف جهود الأثنين تصب في ذات المكان. (لكن ليس الامر كذلك في منظومات هدفها تكريس علاقات قوة وقمع بين الأثنين). كما ولا أجد تناقض بين أرباب المنازل وبين أصحاب المصالح والحوانيت الصغيرة المنتشرة على طول شوارع الناصرة وازقتها فكل الطرفين يود ان تتم عملية التسوق في البلد بسرعة بسهولة وبسلاسة. من هنا فإن تغيير ثقافة التنقل في البلد والإعتماد على المواصلات العامة وبالأخص الباصات والتكسيات الخاصة (لمن يرغب بتوصيلة من الباب للباب)، لا بد ان يعود بالفائدة على الجميع حيث انه يقلل من إكتظاظ السيارات في الشوارع، يزيد من أمن المشاة ويقلل من حوادث الطرق. كما ويقلل من أزمة السير ومن عناء ايجاد موقف للسيارة ووقوف السيارات امام المصالح التجارية واغلاق "باب رزقها"، ويستثمر المال العام والمصروف الخاص في منظومة مواصلات تخدم الجميع وتوفر مساواة في فرص التنقل السريع في البلد مما قد يزيد من فرص العمل بشكل عام وفرص العمل لكل من سواقي الباصات والتكسيات الخاصة بشكل خاص. وطبعاً هذا الأمر يتطلب من كافة الأطراف تذويت ثقافة تنقل مختلفة لا تعتمد على السيارة الخاصة، وتشجيع ثقافة التنقل مشياً على الأقدام في مركز البلد مما سيعود ايضاً على البلد بالفائدة الأجتماعية حيث سيزيد من تفاعل الأفراد فيما بينهم، وسيزيد من معرفتهم للبلد بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة ومن تفاعلهم معها ومن شعور الإنتماء العام والغيرة على مصلحة البلد.

طبعاً بالأضافة الى هذا هناك جوانب أخرى عديدة لكل موضوع يجب مناقشتها وتحليلها بشكل موضوعي واختيار الطروحات الأنسب لكل منها، وما كان لهذا الا ان يكون مثال واحد بسيط فقط حيث لا يمكنني التوسع بكافة المواضيع في سياق هذا المقال كما ولا يمكنني تداول مواضيع لا يتم طرحها بشكل عيني وموضوعي وهذا ما نفتقده بشكل عام في ساحات معارك الأنتخابات المحلية، وما تفتقده النسويات بشكل خاص لتقييم ما هو النسوي وما لا في هذة الحلبات.

ومن هنا عودة الى النسويات...

فترة الأنتخابات المحلية هي فرصة جيدة لحث وتطوير وتنمية خطاب ونقاش عام بالأضافة الى خطاب ونقاش نسوي محلي بخصوص القضايا المحلية لكل بلد. كنسويات وكناشطات أستقطبتنا القضايا "الوطنية" وقضايا الجريمة ضد النساء. بالإضافة الى هذين القطبين من حين الى أخر، كنسويات، نتعامل مع  مواضيع مثل "النساء والعمل" و"تمثيل النساء في الهيئات المختلفة" فندفعها قدما بتلائم مع الوتيرة السياسية الأقتصادية العامة، لكن القضايا المحلية  اللتي تأثر على الحياة اليومية لفئة كبيرة من النساء لم تحظى منا على القدر الكافي او ربما على اي نوع من الأهتمام.

من هنا اود اولاً توجيه دعوة للنسويات ولكافة الناشطين والناشطات في الأحزاب المختلفة الى حث الأحزاب على طرح قضايا عينية امام الجمهور تمكنه من نقاشها بشكل موضوعي ومن إختيار الأنسب للبلد والترفع عن حصر المعركة بالخصوصيات الحزبية والصفات الشخصية لهذا او ذاك.

قد يقول البعض، خاصة وان الإنتخابات ستعقد بعد أقل من شهرين (22 تشرين اول)، أن الوقت متأخر وأن هذة المواضيع يجب ان تتداول اصلاً في الحلقات النسوية فكيف نطرحها في السياق العام ونحن كنسويات لا موقف لنا منها؟!  لكن من المهم طرح هذة المواضيع اليوم لتتواجد على طاولة صانعي القرار في الغد. وكنسويات لا بد لنا أن نُعمق مفهومنا للنسوية على مستوى أدارة بلدية او مجلس محلي، فإن انشغل الرجال حول "من الأقوى" و"من الأسرع" و"من الأكبر" و"من وطني أكثر"  فلماذا لا نبادر الى نقلة نوعية للحدث ونحوله من "معركة إنتخابات" (قد تكون دموية بالمعنى المجازي) الى "عرس ديمقراطي" نكبُ من خلاله والجماهير على التمعن في قضايا البلد وعلى طرح ومناقشة رؤيتها للأمور وللقضايا المحلية.

وطبعاً في البداية التحدي هو تحدي نسوي ذاتي، فما هي مواقف النسويات النسوية من هذة القضايا؟! ولا بد لنا كنسويات أن نحول هذا التحدي النسوي إلى تحدٍ لكل الكتل المتنافسة وللخطاب السياسي المحلي بشكل عام فنأخذه بنقلة نوعية الى مكان اخر. وكنسويات بعضنا تنشط سياسيا داخل الأحزاب وبعضنا خارجها ولا ارى أي تناقض بين تحدي الأحزاب في طروحاتها النسوية وبين الولاء الحزبي أو الوطني. فالولاء الحزبي والولاء النسوي والولاء والوطني لا يتناقضوا إلا اذا تناقضت النساء والوطن او النساء والحزب فأعتبرت النساء "غريبات" و"ضيوف" وسوئلت صباحاً ومساء حول إنتمائهن وولائهن من جهة وقمعن بأبشع الجرائم من جهة وأقصين بهيمنة ذكورية أبوية عن الحدث وعن القرار وعن الخطاب العام.

وعذراً من اللغة العربية على الأخطاء الواردة حتما بالنص.

-----
نسرين مزاوي - باحثة في علوم الإنسان، خبيرة ومستشارة بيئية مستقلة. ناشطة نسوية. حاصلة على الباكلوريوس في علم الأحياء وعلى الماجستير في إدارة البيئة والموارد الطبيعية
.