اذا كانت هذة هي الوطنية فانا لست وطنياً - في ظل اجواء الطائفية في الناصرة المطلوب قيادة تصنع البديل


الانتخابات المحلية في الناصرة هذة السنة أختلفت بشكل واضح عن كل ما سبقها من انتخابات. فخلافا لما سبقها ساد الحملة الانتخابية على مدار ما يقارب الشهرين شعور عام بنزوح الطائفية عن البلد. فمع نهاية التسعينات وبداية الالفية خيمت اجواء طائفية حادة في البلد. سياسياً خدمت هذة الأجواء الحركة الاسلامية في البداية وعادت بالفائدة على جبهة الناصرة (شيوعيون واخرون) فيما بعد حيث ضمنت الجبهة لسنوات عدة اصوات المسيحيين في البلد. خلال العقد الأول من الالفية تراجعت قوة الحركة الاسلامية لأسباب لن اخوضها كما وظهر التيار القومي متمثل بحزب التجمع وحاول دخول الساحة السياسية الا انه لم يحرز انجازا باهرا في الموضوع.

الى جانب اضمحلال الطرح الطائفي في هذة الانتخابات ظهرت بوادر أخرى تسر القلب ومنها ترشح أمرأة لكرسي رئاسة البلدية وهي حنين زعبي مندوبة القائمة الاهلية المتماثلة مع التيار القومي. بالأضافة الى امور اخرى من انشقاقات في الجبهة ومنها ظهور المجموعة الشبابية النشطة "حركة شباب التغيير" والانشقاق الأكبر وهو خروج علي السلام من تحالفه مع الجبهة تحالف دام ما يقارب العشرين سنة، وترشحه للرئاسة كمرشح مستقل مع قائمة مرشحين للعضوية تحمل اسم "ناصرتي".  

لقد كان من المثير بل من الممتع ان الحملة الأنتخابية في الناصرة هذا العام اثارت مواضيع سياسية ونسوية ونصراوية محلية وعامة لم يكن لها مكان في الساحة السياسية من قبل. ومنها النسوية والسياسية المحلية، وسوق الناصرة واقتصادها وازمة السير فيها وعلاقتها مع مرافق تجارية محاذية ومواضيع أخرى.

حتى اللحظة الأخيرة تأرجحت نتائج الانتخابات وما زالت بين على السلام المرشح المستقل المنشق عن الجبهة، وبين رامز جرايسي مرشح الجبهة ورئيس البلدية السابق منذ منتصف التسعينات حتى الان، بفارق 21 صوت تقريبا في المساء كانت لصالح الجبهة وفي الصباح ظهرت لصالح على السلام مما ادى بالجبهة بالبحث عن والسعي وراء كل صوت والتدقيق بالأصوات التي تم الغائها وشرعية الأسباب التي ادت لذلك وطبعاً اللجؤ الى القضاء في هذة الأمور بما فيها البحث والأصرار على اصوات المجندين من ابناء الناصرة.

أصوات الجنود، الطرح الديمقراطي والخطاب الوطني
السعي وراء اصوات المجندين أحرج الجبهة بشكل كبير وذلك لخروجها عن الاجماع الوطني حول قضية التجنيد والخدمة المدنية. لكنه ايضاً فتح سؤال كثير كبير وهو حول الموقف الديمقراطي من حق هؤلاء بالمشاركة بالانتخابات وشرعية اصواتهم وقد طغى على هذا النقاش خطاب "الوطنية والخيانة" وتجاهل جوانب أخرى للموضوع قد تكون جذرية ومبدائية اكثر من فضفاضية الوطنية والخيانة. فالمجتمع لا يخلوا من الكثير من الناس اللغير صالحة والغير كُفء للمشاركة في الانتخابات وعلى راسهن العملاء الموجودين بثياب مدنية والفاسدين اخلاقياً والمتحرشين والمعتدين جنسياً على النساء والأطفال وجرائم كلها لا تقل خطورة عن جريمة الالتحاق بجيش الأحتلال. فما هو المعيار الذي نعتمده عندما نسلب من هذا او ذاك شرعية الحقوق.

نظرة نسوية على خطاب "الخاين والوطني" في سياق النقاش حول اصوات الجنود
حث الجبهة التخلي عن سعيها وراء اصوات الجنود ما هو الا قرار ميداني شعبي بما يخص حق من الحقوق الأساسية لهولاء كافراد في المجتمع. فخطاب "الخاين والوطني" كخطاب "العيب والحرام" هم اليات اجتماعية يستعملها المجتمع لضبط افراده وللمحافظة على قوانينه اللتي لا تكفلها مجموعة القوانين الرسمية في الدولة. بواسطة آليه "العيب والحرام" حافظ المجتمع الفلسطيني على انضباط نسائه وعلى تحديد حريتهم مقارنة مع مساحة الحرية اللتي تمنحهن اياها القوانين الرسمية. وكلنا يعلم ان  الكثير من النساء اللتي لم تحافظ على هذة القوانين الاجتماعية نفذت فيها محاكم ميدانية تعرف باسم "جرائم الشرف".

منذ شهر او اقل تقريبا خرجت النسويات في الداخل على كافة قياداتها النسوية على مختلف اطيافها متكاثفات مع رجال داعمين من كل الاحزاب وعلى رأسهم قيادات هذة الاحزاب لمناهضة هذة المحاكم الميدانية وهذة الجرائم المرتكبة بحق النساء، مطالبات السلطات الرسمية بأخذ المسؤولية وفرض اطار القانون والاحكام الرسمية في هذة القضايا.

آلية "الخاين والوطني" هي ألية اجتماعيا مطابقة لآلية "العيب والحرام" وتعمل بطرق مشابهة. في اشياء بتنعملش وفي اشياء اللي هي "عيب" وفي اشياء اللي هي "حرام". لكن من يحدد ما هي الثوابت هذة التي تحث عليها هذة الأليات؟! وكيف يقوم المجتمع بالتعامل مع هذة الثوابت ومع خروقاتها؟! من يصدر الأحكام ومن ينفذها؟ هل نريد ان نحتكم لمحاكم ميدانية؟! فبعدم وجود اطار رسمي شامل وجامع للمجتمع الفلسطيني في الداخل يبقى اطار الثوابت الوطنية-الاجتماعية اطار فضفاض يسرح ويمرح به كل من يشاء.

لكي نحافظ على ثوابتنا الوطنية نحن بحاجة لاطار شامل وجامع. ومن المفروض انه "لجنة المتابعة" او ما شابهها أن تأخذ وظائف وادوار تمثيلية جامعة شاملة وملزمة، لا تقتصر على امور محلية انما على التمثيل في البرلمان الأسرائيلي وعلى تمثيل فلسطيني الداخل الحاضرين الغائبين والعائق الاكبر في مفاوضات السلام.

وطبعا يبقى السؤال والتحدي الأكبر امام النساء النسويات والقوميات منا بالاساس، هو الحد من المعايير المحافظة التي سوف يفرضها على النساء هذا الأطار. فليس من المفاجئ ان قيادة الأطار الوطني قد تترك مشاكل الدنيا كلها وتشغل حالها بالحد من حرية النساء والمحافظة على المجتمع والهوية من خلال فرض السيطرة على النساء.

عودة الى الناصرة والى ما افرزته من طائفية بعد الانتخابات
نتائج الانتخابات المترنحة بين هذا وذاك ادت بكافة الأطراف الى اللجوء الى كل السبل الممكنة للتأثير على النتائج. فان التجأت الجبهة الى القانون والقضاء، التجاء الأخرون الى الشعب والى قدرته على "التخجيل" و"الترهيب" و"التوعيد" مما اثار توترات الناصرة في غنى عنها. والطابع المهيمن على هذة التوترات هو طابع طائفي فأن اعتقدنا ان الطائفية خارج الناصرة ولا مكان لها منذ بداية الحملة الانتخابية حتى يوم الأقتراع فها هي تعود الى الناصرة من بابها الاوسع غداة الأنتخابات لتحسم المعركة ولتخدم مصالح هذا او ذاك.

خلال اسبوع كامل بعد الانتخابات استشاطت الاجواء في الناصرة وتعالت اصوات المنددين والمتوعدين والمدينين في كل حيز وسياق. هذة التوترات طالت كل النصراويين وكلهم بترقب بما ستؤل اليه البلد في حال كانت النتيجة لصالح هذا او ذاك. والحديث ليس عن توتر وترقب كالذي يسود الأجواء بين محبي فرق كرة قدم، انما ترقب وتوتر بين ناس ما ذالت تذكر الفتنة الطائفية التي عاثت بالبلد خراباً منذ ما يقارب خمسة عشر عام.

اسبوع كامل من هذة التوترات ولم يقم اي من المترشحين والمتنافسين على رئاسة البلدية بإصدار بيان استنكار وتنديد باجواء العنف والطائفية التي لحقت بالبلد. اسبوع كامل ولم نسمع اي مبادرة شعبية لتهدئة التوترات. اسبوع كامل وكل من تلعب الطائفية لمصالحه الان يلعب بأعصاب البلد وباعصاب اهلها. اسبوع كامل من التوتر. اسبوع كامل من قلة الحركة في شوارع البلد. اسبوع كامل من قلة التجارة وربما السياحة ايضا. اسبوع كامل من انعدام الشعور بالأمان. وكافة المرشحين قاعدين يتفرجوا لا بل وكوادرهم بتزيد الطين بلة وبتهوش بالناس.  

والوطنيين طبعا يحلو لهم التهجم على الجنود وعلى اصوات الجنود الغير شرعية بغطرسة وغباء اجتماعي-سياسي يغفل عن حيثيات القضية وعن تفاصيلها الصغيرة المعقدة. ويلعب بهذا الفريق الوطني الى صالح الحكومة فما عجزت عنه الحكومة من محاولات تجنيد خلال سنوات عديدة يقوم الوطنيين المغطرسين منا بأنجازه عوضاً عنها. فالحكومة تقوم بأستهداف فئات الهامش المستضعفة اجتماعيا واقتصاديا، بداء بالدروز ومن ثم البدو والمسيحيين. وكل من هذة الفئات لا يخلو تاريخنا العربي وثقافتنا العربية من ازدرائها وملاحقاتها. فها هم الدروز يسكنون قمم الجبال في فلسطين منذ مئات السنين خوفاً من الملاحقات ويتحالفون مع الحاكم الذي يضمن سلامتهم. وللسكن في قمم الجبال ابعاد اقتصادية لن اخوض بها هنا، واكتفي بالقول بان فرص العمل والتجارة في قمم الجبال تختلف عنها في السهول والساحل، وبهذا يكون القمع مضاعف ديني طائفي اجتماعي واقتصادي. كذلك هو الحال في تجنيد المسيحيين فالحديث المعلن هو حقوق ومساواة والحديث الغير معلن هو التخويف والترهيب من الاخر ومن الملاحقات. واكثر ما يثير العجب من مجتمعنا ومن تركيباته وتعقيداته، هم البدو سكان القرى الغير معترف بها الملتحقين بجيش الإحتلال ويكفي ان تقراء تعليقات بعض النصراويين "الوطنيين" على "كلاب الأثر"  في جيش الأحتلال لتفهم مدى الكارثة الوطنية التي يحملها في جعبتهم هؤلاء "الوطنيين". فالتخويف والترهيب ونظرة التعالي والازدراء، التهميش الأجتماعي والأقتصادي والسياسي هم ما يدفع بهؤلاء الى الجيش الذي يهبهم فتات الأحترام وشعور الثقة والأمان الذي يعجز عنه الوطنيين منا. والسخرية في الموضوع انه هؤلاء الجنود ومنهم من يزاول عمله في الشرطة الأسرائيلية هم من يجولون في شوارع الناصرة الأن لضبط النفوس وللحفاظ على الآمان.

بهذا اليوم اخجل بإنتمائي الى الناصرة. بهذا اليوم اخجل بالخوف الطائفي المتفشي واللذي تعيشه البلد منذ اسبوع. اخجل انه في اليوم الاول انجح باقناع ذاتي بانه لا اساس لهذا الخوف وانه في اليوم الثاني اعجز عن ذلك. اخجل بمتملقي الوطنية في البلد. اخجل بالقيادات السياسية اللي قاعدة تتفرج ولا فيها ولا بقيادتها. اخجل بأنه الامر الوحيد الذي اتمناه الان هو ان اكون بمكان اخر في العالم اي كان بعيدا عن الناصرة وعن اهلها وعن الطائفية وعن كل هذة الفوضى وهذا الأضطراب. هنيئاً، هنيئاً لكم بالوطنية وهنيئاً لكم بالوطن، بس الأرض بلا الناس بعمرها ما بتكون وطن.

وللنهاية استشهد باقوال المربي الفلسطيني خليل السكاكيني (1878-1953)، ففي مقدمة يومياته "كذا انا يا دنيا" التي نشرت في القدس عام (1955): "وما هي الوطنية؟ اذا كانت الوطنية أن يكون الإنسان صحيح الجسم، قويا، نشيطا، مستنير العقل، حسن الأخلاق، انيساً، لطيفاً، فأنا وطني. وأما اذا كانت الوطنية تفضيل مذهب على مذهب وأن يعادي الانسان اخاه اذا لم يكن من بلاده او مذهبه، فلست وطنياً".

-----
نسرين مزاوي - ناشطة نسوية وباحثة في علوم الإنسان. حاصلة على الباكلوريوس في علم الأحياء وعلى الماجستير في إدارة البيئة والموارد الطبيعية.