نشرت في موقع قديتا، تجدونها هنا.
في أعقاب ستاتوس فيسبوكيّ وصف محادثة بيني وبين شاب في العشرينات من عمره ذكرت فيه كلمة “كوير”، وقد استعملها الشاب لوصف هويته، توجّه إليّ عدد من الاشخاص ليسألني عن معنى الكلمة. بروفيل الاشخاص الذين توجّهوا إليّ بغالبيتهم نساء في منتصف الثلاثينات، أمهات لأطفال تتراوح أعمارهنّ بين 0-6 سنوات، جميعهن حاصلات على الماجستير في مجال التربية أو يدرسن للمجاستير، وشاب واحد مع بالكالوريوس اقتصاد وإدارة أعمال- وجميعهم لم يعرفوا معنى كلمة “كوير” ورغبوا بالاستفسار عنها بمحادثة شخصية.
في أعقاب ستاتوس فيسبوكيّ وصف محادثة بيني وبين شاب في العشرينات من عمره ذكرت فيه كلمة “كوير”، وقد استعملها الشاب لوصف هويته، توجّه إليّ عدد من الاشخاص ليسألني عن معنى الكلمة. بروفيل الاشخاص الذين توجّهوا إليّ بغالبيتهم نساء في منتصف الثلاثينات، أمهات لأطفال تتراوح أعمارهنّ بين 0-6 سنوات، جميعهن حاصلات على الماجستير في مجال التربية أو يدرسن للمجاستير، وشاب واحد مع بالكالوريوس اقتصاد وإدارة أعمال- وجميعهم لم يعرفوا معنى كلمة “كوير” ورغبوا بالاستفسار عنها بمحادثة شخصية.
بدايةً، لا بدّ من
التوضيح أنّ كلمة “كوير” تستعمل اليوم لوصف هويات جنسية مختلفة عن الهوية
الجنسية المهيمنة ثقافيًا واجتماعيًا، وهي الهوية السويّة (straight) أو
المغايرة (heterosexual). فكلّ ما هو مختلف عن الهوية المهيمنة يمكن أن يقع
في خانة كوير. والكوير في العربية تعني “الشاذ والمنحرف والخارج عن
القاعدة”. وقد ظهرت كلمة “كوير” في الثقافة المحلية منذ ما يقارب السنوات
السّبع ورافقها نقاش سياسيّ وثقافيّ بين الناشطين المهتمين في الموضوع
آنذاك، حول أبعاد ومعاني استخدام هذه الكلمة بدلَ الكلمات الأخرى.
الأصوات المعارضة
لاستخدام الكلمة “كوير” كما هي، شدّدت على البُعد الثقافي للكلمة وعلى
أهمية استخدام مصطلحات عربية محلية، ممّا يُسهل التواصل مع المجتمع المحلي
ويجعل من المضمون أكثر يُسرًا ووضوحًا. الأصوات المؤيدة لاستخدام
الكلمة شدّدت على البعد السياسي العالمي للكلمة حيث تطوّرت في سياقها
نظريات فلسفية واجتماعية وسياسية تعتمد على تفكيك الهويات وصهرها في مذهب
كويريّ، وتعرف هذه النظريات والتوجّهات اليوم باسم “النظرية الكويرية”،
وباتت إحدى أهمّ النظريات الحديثة التي تُدرس في العديد من المجالات
الاكاديمية.
إذًا فالنقاش
دار بين شقيْن؛ الشق الأوّل رجّح كفة استخدام المصطلحات العربية، ومنها
المثليّ والمزدوج والمتحوّل والمتغيّر، واقترح استخدام كلمة “شاذ” كمصطلح
مقابل لكلمة “كوير”، حيث يتمتعان بسياقات اجتماعية وسياسية مشابهة. فكلمة
كوير باللغة الانجليزية استخدِمت كشتيمة لذمّ المثليين والمزدوجين
والمتحوّلين قبل أن يستردوها لتتحوّل إلى هوية يُفتخر بها ومصدر قوة ونظرية
فلسفية وتوجّه سياسيّ فيما بعد، فما بالنا لا نستردّ الكلمات المحلية
ونحوّلها إلى مصدر قوة؟! أمّا الشق المعارض فقد تحفظ من كلمة شاذ وشواذ
لشدة الإهانة المرافقة لهما (برغم أنّها لا تختلف عن كوير أبدًا بكونها
شتيمة)، بالإضافة رجّح هذا الشق كفة الثقافة العالمية وأهميّة كون المثليين
المحليين جزءًا من هذه الثقافة العالمية ومن تياراتها السياسية. أمّا
بالنسبة للتواصل وللبُعد الثقافي المحلي فقد رأى هذا الشقّ أنّ للنشاط
المحلي دورًا كوكيل وكمُيسّر ثقافيّ بين الشرق والغرب، وبأنه لا بدّ من
إدخال كلمة “كوير” إلى الثقافة المحلية كما دخلت مصطلحات غربية أخرى، كالجندر مثلاً، وبات استخدامها شائعًا.
طبعًا لم يُحسم
النقاش، وقد مرّت عليه سبع سنوات أو أكثر، راج خلالها استخدام كلمة “كوير”
سياسيًا وثقافيًا. وسياسيًا تفكّك الكوير كافة الهويات وتصهرها في هوية
واحدة غير معرّفة وغير محدّدة، وبهذا فهي تشبه هوية “الانسان” الذي يتوقع
الإسرائيلي اليساري المتنور من الفلسطيني أن يتبنّاها عوضًا عن هويته
القومية، لتصهر الاثنين معًا في هوية متناسقة متناغمة وكأنّ هذا كفيل بحلّ
الصراع السياسيّ بين الفئتين. وعلى المستوى الثقافي فهي تحمل في طيها
تواصلا ثقافيا عالميا وتنصلا ثقافيا محليا وانكارا لدنيوية المثلية في
الثقافة العربية. فها هي مجموعة من النساء، وهُنّ عادة أكثر انفتاحًا من
الرجال على هذه المواضيع التي تهدد الهوية الذكورية، شابات في ربيع العمر
وأكاديميات، وقد يدلّ هذا على إلمام باللغة الانجليزية وانفتاح نوعًا ما
على الثقافة العالمية؛ متزوجات وأمّهات غضّات لا بدّ وأن يكُنّ من أوائل
المُلمّين بهذه المواضيع من المجتمع غير المثلي العام، يجهلن الكلمة برغم
شيوعها في صفوف المثليين والناشطين اجتماعيًا وسياسيًا.
قد يرى البعض بهذا
الأمر حدثًا يدل باتجاه وجوب الجدّ في ترويج الكلمة الحديثة. لكنّ التمعّن
في الأمر يكشف أنّ كلمة “كوير” تحوّلت إلى خزانة ثقافية محلية يدخلها
المثقفون كويريًا ويبقى خارجها العامة “غير المثقفة”! فها هي كلمة
“كوير”، أداة تحرّر المثليين الغربيين من القمع والدنيوية في الثقافة
الغربية، تتحوّل إلى خزانة ثقافية تعيد إنتاج طبقية ثقافية وتبني وتنسج
علاقات قوة معكوسة قائمة للأسف حصريًا في خيال الكويريين العرب وحدهم،
المتحررين داخل خزانتهم الثقافية والمقموعين خارجها. فبما أنها كلمة
إنجليزية وغير مفهومة فهذا قد يبثّ شعورًا بالاستعلاء لمن هو جزء من هذه
“الثقافة” وشعورًا بالدونيّة والاحراج لمن هو خارجها، وهذا ما يفسر
باعتقادي اختيار كافة من تسأل حول الكلمة من المجموعة أعلاه بالاستفسار
عنها بهدوء وانفراد وبحديث شخصي جانبيّ لا يهدّد الأمان الاجتماعيّ
الثقافيّ الطبقيّ لكلّ من المتسائلين.
من هنا، فإنّ من
يروّج من العرب لاستخدام كلمة “كوير” وينفر من كلمة “شاذ”، فإنه يجهل تاريخ
الكلمة ويجهل ثقافتها، ويجهل ليس بمعنى المعلومة او المعرفة انما بمعنى
التجربة العاطفية للكلمة. فلا يمكن أن تتحرّر من خلال التجارب العاطفية
للآخرين. وهوية “الكوير” أو “اللا-هوية الكويرية” هي كهوية “الإنسان”
الفضفاضة في العلاقات اليهوديّة العربية. وقد يقول القوميون إنه لا بدّ من
أن نعي كوننا فلسطينيين أولا لنتعالى ونتحرّر من أسر الهوية القومية في
مرحلة لاحقة، فهل لا بد أن نقرّ بالوجود الشرعي للمثليين أولا لنتحرّر من
أسر الهوية المثلية لاحقا؟ وإذا كانوا شواذًا ومتحرّرين فهل تحرّرهم كلمة
“كوير” من دونيّة الشذوذ في الثقافة العربية، أم أنها تُلمع الخزانة
الثقافية وتحوّلها إلى ثقافة نخبوية وإلى أسرٍ يطيب العيشُ فيه؟