انتخابات الناصرة جثة هامدة تعود الى الحياة - رسالة الى اهل البلد، الى القيادات السياسية، رجال الأعمال، النسويات والمهتمين بالأمر من خارج البلد



مقدمة
الانتخابات المحلية في الناصرة التي عقدت في اوكتوبر 2013 ونتائجها لم تحسم بعد اشاعات في المدينة اجواء من التوتر غلب عليها الروح الطائفي. للمزيد حول الموضوع يمكن مراجعة ما كتبت سابقا حول الانتخابات، هل من بديل للطائفية في الأنتخابات؟ و النسويات والأنتخابات المحلية.

الطائفية في الناصرة هي ليست بأمر جديد وهي ليست بأمر غريب عن العلاقات الاسلامية المسيحية في مدن المنطقة. راجع: الأقباط في مصر، المسيحيين في العراق وفي سوريا، لبنان، مذبحة الأرمن على يد الأتراك، قبرص وأمثلة اخرى عديدة.

يشهد التاريخ انه لطالما عرفت الناصرة التعالي على التوترات الطائفية وادارة شؤنها بعيداً عن اشتباكات دموية عرفتها مدن ومناطق اخرى وقد كانت أزمة الناصرة 2000 حول مقام شهاب الدين في السنوات 1998 الى 2003، الأزمة الطائفية الاولى في تاريخ الناصرة الحديث لم تعرف البلد مثلها منذ مئات السنين.

بالرغم من الأفكار النمطية التي تعم كافة الفئات وبالرغم من التوترات الطائفية المنضبطة غلبت روح التأخي على العلاقات الاسلامية المسيحية في البلد وبهذا شكلت الناصرة مشهدا مختلفاً عما عرفته باقي مدن المنطقة، ولهذا الانضباط ابعاد سياسية لم تخفى ابداً على اي من الاطراف. مكانة البلد في عيون دول العالم المسيحي شكلت عامل سياسي في حياة البلد في كل الفترات. ففي العام 1620 قام الوالي امير فخر الدين، الذي اراد توطيد علاقاته مع نبلاء توكسانا في ايطاليا،  بدعوة الفرنسيسكان الى البلد بعد ان قل عدد المسيحيين فيها الى 7 بيوت من بين 222. وجود الفرنسيسكان والمصالح السياسية للحكام المتعاقبين ساهما في حفظ الهدوء في البلد وشجعا الهجرة اليها من قبل ابناء كافة الطوائف مسيحية واسلامية على حد سواء.

روح الانضباط الطائفي في البلد لم تنبع فقط من المصالح السياسية للحكام انما ايضا من روح التآخي في البلد ومن أرادة السكان بالحفاظ عليها سالمة وآمنة. فنرى ان بعض الحكام التي اختلفت مصالحهم السياسية اختلف معها ايضاً تعاملهم مع البلد. ففي العام 1828 امر والي الناصرة بالاعتداء على المسيحيين في المدينة وحرق بيوتهن الا ان مسلمي الناصرة رفضوا الإنصياع لهذة الاوامر وتصدوا لها. كما وقام الباشا المصري العربي، عام 1881 بإصدار امر مشابه بقتل كافة ابناء الطوائف المسيحية، الا ان شيوخ البلد المسلمين تصدوا لهذة الاوامر وعاقبوا كل من سالت له نفسه بالتجاوب معها. والامثلة عديدة اهمها والحديث منها ، في العام 1948 رفض رئيس البلدية يوسف الفاهوم التعاون مع جيش الأنقاذ العربي بقيادة القواقجي بعد ان قام هذا بالتعدي على رجال الدين المسيحيين وبعض العائلات المسيحية فور وصوله الى البلد ومع ابتداء النكبة عام 1948 استوعبت الناصرة لاجئين بقدر عدد سكانها، وحيث ان البرنامج الصهيوني للتطهير العرقي كان له بعد طائفي لا يُخفى على احد، فقد كان اللاجئون بغالبيتهم مسلمون وقد قام اهل البلد (60% منهم مسيحيون و40% منهم مسلمون اناذاك) وكافة المؤسسات الارسالية المسيحية من مدارس ومستشفيات واديرة وكنائس وغيرها بالاضافة الى البيوت الخاصة في كافة احياء المدينة بفتح ابوابها امام اللاجئين بدون استثناء.

من هنا فان التآخي في البلد له تاريخ طويل وله الفضل الأول في الحفاظ على البلد كمكان آمن لأهلها ولغيرهم ممن سعوا لحياة هادئة آمنة بعيدا عن التوترات والمعارك والمذابح التي شهدتها مدن اخرى في المنطقة.

طبعا هذة المعارك والمذابح التي شهدتها المناطق الأخرى هي نتاج لصراع قوى. كلٌ يريد السيطرة. وكذلك الأمر في الناصرة. صراع القوى موجود، ولكي نفهم الحالة الطائفية في الناصرة يجب تحليلها من هذا المنطلق فالتوترات الطائفية الموجودة ليست توترات عقائدية انما توترات سياسية بين فئات مختلفة، لا تقتصر على الطائفية، تتنافس فيما بينها على السيطرة،  على ادارة شؤون البلد وعلى صقل هويتها.

صراع القوى في الناصرة 2013

طبعا الناصرة ليست جزيرة. الناصرة ليست منعزلة اومنفصلة عن العالم وعما يدور فيه من احداث. لذلك اي تحليل لما يحدث في الناصرة لا بد ان يضع الامور في سياقها العام وان يتطرق لها من هذا المنطلق وان لا يكتفي بتحليل موضعي للأمور منعزل عن الحياة العامة للبلد واهلها المتأثرة لا محال بما يدور في الدولة، في المنطقة وفي العالم.

طبعاً الحدث الأهم في الناصرة 2013 هو خسارة الجبهة للانتخابات المحلية التي طالما فازت بها وترأست البلدية بها منذ العام 1975 لفترة 38 عام. بداية لا بد من التشديد ان خسارة الجبهة هي الحدث، وليس فوز الاحزاب الاخرى لان الأحزاب الاخرى لم تفز انما الفوز هو للمستقلين ورجال الأعمال. وهذا الفوز للمستقلين المدعومين من قبل رجال اعمال هو جزء من المشهد السياسي العالمي العام وخسارة الشيوعيين هي جزء من خسارة عالمية تعود الى اجواء اقتصادية اجتماعية سياسية عامة، فظاهرة فوز المستقلين ورجال الأعمال هي نتاج لحالة نيوليبرالية تعم كل مدن العالم من اكبرها لاصغرها، وفقدان الشيوعيين لاتصالهم المباشر مع شريحة الكادحين والعمال هي نتيجة مباشرة لهذة المنظومة التي تضرب اولا النقابات العمالية، مما حدث في الناصرة كما في غيرها من مدن اخرى. اضافة هناك عوامل اخرى لا استهين بها فوجود فئة واحدة في الحكم لفترة تقارب الاربعين عام لا بد من انه صاحب ترهل اهمال والعديد من الأخفاقات. وافترض ان هذا التغيير كان ليحدث مسبقاً لولا تأزم الحالة الطائفية في الناصرة في السنوات 1998-2003. لكنه لم يحدث آنذاك وحدث الان والفائز الأكبر الأن هم رجال الأعمل. اما بالنسبة للاحزاب الصغيرة الداعمة لقائمة المستقلين ففوزها صغير ايضاً وينحصر بهزيمة الخصم كهدف بحد ذاته وضعته هذة الاحزاب نصب عينيها وربما بمعاش نائب رئيس تُبطل كافة صلاحياته (بغض النظر عن مدى وطنيته او وطنية قراراته) في حال تضاربت مع مصالح الرئيس ورجال الأعمال.

التشجيع على العنف والإستثمار الطائفي في الصراع حول السلطة واشاعة اجواء التوتر والإرهاب

ما تشهده المدينة في الأشهر الثلاثة الأخيره يمكن اختصاره بمقولة الغاية تبرر الوسيلة. ففي صراع السيطرة وفي سبيل الوصول الى السلطة كل شيئ مسموح حتى وان ولعت البلد. التحشيد العام الذي تشهده البلد هو تحشيد ضد الشيوعين كأفراد وناشطين، ضد شخص الرئيس السابق (كانه دكتاتور بشخصه وليس مندوب عن حزب تم انتخابه للرئاسة بطرق ديمقراطية)، وضد المسيحيين عامة مع العلم ان كافة القوائم، ما عدا القائمة الاسلامية، هي قوائم مختلطة، فعجبي من هذا التحشيد الطائفي!!!!

الى جانب التحشيد الطائفي، لا يتردد الناشطين السياسيين والاحزاب المختلفة التي لها مصلحة في خسارة الجبهة من داخل الناصرة ومن خارجها في استعمال الترهيب والتخويف مما قد تؤول اليه البلد في حال لم تتنازل الجبهة ولم ترضى بنتائج الأنتخابات الحالية. فنسمع هنا وهناك من يقولون "الافضل للجبهة ان تتنازل حتى ولو ربحت قانونيا من اجل السلم الأهلي". طبعاً هذا الترهيب مرفوض جملة وتفصيلاً. فاحترام خيار الناخب هو امر حتمي ومفروض على كافة الأطراف. حسم الخلاف حول موضوع الأنتخابات يجب ان يتم بالطرق القانونية المتفق عليها. الأنتخابات المحلية تنبثق عن قانون الأنتخابات الأسرائيلي ولذلك فهي تحتَكِم له من اولها الى اخرها. في قانون وفي محاكم وفي وسائل قانونية وسياسية مقبولة وشرعية وكل طرف يحق له اللجوء الى كافة الوسائل الشرعية والمتفق عليها، لكن العنف او التخويف هما امران مرفوضان رفضا باتاً وعلى كافة القيادات السياسية من اكبرها لأصغرها اسماع صوت واضح وبدون تئتئة في الموضوع. صوت يناهض الطائفية وينهي عن استعمال العنف بكافة اشكاله. فالارهاب هو ليس عمل القتل او الحرق بحد ذاته، انما هو الخوف والتوتر الدائم الذي يسيطر على حياة الناس لعدم معرفتهم هل سينفجر الباص (او الناصرة) ام لا، هذا هو الارهاب!!!

فوجب التنويه. يعني اذا مش عارفين حالكو شو عم تساووا، فهادا اللي عم تساووه. عم تستعملوا الارهاب ضد ابناء الشعب الواحد لحسم صراع قوى بين فئات مختلفة الفائز الوحيد فيها هم رجال الأعمال.

من هنا اود توجيه رسالة واحدة الى كل فئة على حياد

الى رجال الأعمال من كل الطرفين – للاسف ان يضطر شخص مناهض للرأسمالية ان يقول هذا الكلام الى رجال الأعمال لكن;  البلد اللي الناس فيها خايفيين، بتنضب فيها الناس ببيوتها وبقل نشاطها بما فيه النشاط الاقتصادي والتجاري. البلد اللي الناس فيها محبطين وعابسين تقل مشترياتهم لانه الصرف بيجي مع الشعور العام بالراحة والامان ومع الشعور انه المصاري اللي بصرفها اليوم بكرا بشتغل وبجيب غيرها. بالاضافة التوتر العام في الشارع وغيره يبعد الزوار عن البلد وكل الوضع  يضر باقتصاد البلد وبحركة التجارة فيها!!!  فالعنف والطائفية والأرهاب لا تتوافق مع المصالح الأقتصادية لكم، وحتى ان استعملت لحسم نتائج الأنتخابات الان، لكن آثارها تبقى لوقت طويل وكذلك ابعادها على البلد تطول اكثر من فترة حسم نتائج الانتخابات.

الى زعران البلد من كل الأطراف - ولك بتسواش ولد يروح فيها، بتسواش حرقة قلب ام على ابنها خايفة عليه لانه شوارع البلد مش آمان، بتسواش ولد ينعور ويبقى ضرير او نصف ضرير كل حياته. ومش شرط انه الشخص اللي راح يوكل الهواية يكون من الطرف الاضعف لما في مناوشات اي شخص ممكن يوكلها حتى لو كان من الطرف الفائز.

الى القيادات السياسية المعترة، اللوم الاكبر عليكم. البلد مسؤولية وكل المسؤولية تقع عليكم. التعددية الحزبية والفكرية هي شيء رائع وصحي ومطلوب. لكن العنف والترهيب مرفوض. يعني اغلب الناس بدها تكمل حياتها مش مفروض تضل عايشة باجواء التوتر هاي. اقل ما فيها اسماع صوت واضح ضد العنف والنهي عنه بشكل غير قابل للتأويل من اكبر حزب او قائمة الى أصغرهم. القيادة السياسية الها دور بحياة البلد ان ربحت وان خسرت مش بس تتشاطر تنزل بالأنتخابات فالمسؤولية بمناهضة العنف والتصدي له تقع على الجميع وكل واحد ما سمّع صوت واضح في الموضوع اصبع الأتهام موجهة له ومثل ما عرفتوا تصرفوا ملايين على الدعاية الأنتخابية فيكو تصرفوا على حملة عامة مناهضة للطائفية ومناهضة للعنف او على الأقل يكون صوتكوا واضح وتحطوا حد للموضوع. ولا ايش معنى القيادة؟!!! شو هي بس قيادة كرسي وسيطرة مادية على البلد؟ّ!!!

الى القيادات الجماهيرية الغير حزبية، ان كان شيوخ او كهنة او رؤساء طوائف ونوادي اهلية كشافات مدارس وغيرها، المطلوب منكو اخذ دور فعال في توجيه الأمور وعدم الوقوف وقفة المتفرج. طبعاً في الكم تأثير فما تخلوها بايدين الأحزاب ورجال الاعمال.

الى المهتمين بالأمر من الخارج -  يا بتحكوا ايشي مفيد يا بتعيرونا سكوتكوا، مش ناقصها! واللي عنده طموحات سياسية عامة فليجد اطار ملائم لتحقيق طموحاته السياسية. مثلاً لجنة المتابعة، روحوا طوروها كمؤسسة سياسية تمثيلية لها تأثير. حلو عن الناصرة وان اعتبرها البعض عاصمة، لكنها لا عاصمة ولا بطيخ. كلها مجرد مجلس بلدي. وان لعبت الناصرة دور سياسي بحياة الجماهير العربية فهاد بسبب القيادات التي طلعت منها ومش بسبب وجود هاد الحزب او هداك في رئاسة البلدية.

الى النسويات – خيبة الأمل الأكبر هي منكن. وطبعا كبر خيبة الأمل هو على كبر التوقعات. للأسف الشديد النساء النسويات بغالبيتهن مُأطرات حزبياً وولائهن الاول والأخير للحزب، حتى ان الحزب ما عبرهنش وما قدرهنش ولا اعطاهن مكانة على قد قيمتهن (راجع حالة النساء في الحزب الشيوعي)، وحتى ان الحزب استغلهن لتحقيق مطامحه الحزبية الضيقة (راجع حالة النساء في حزب التجمع). على مدار شهرين ونصف والعد ما زال مستمر النساء اللي ليل نهار عم تناهض العنف ضد النساء وطالعة نازلة تتظاهر ضده، تقف وقفة المتفرج امام اشاعة اجواء التوتر والتهديد بالعنف وضرب السلم الأهلي بالبلد. ليش؟! لان هذا الصمت يخدم المصالح الحزبية التي تحاول حسم الامور عن طريق التخويف والتهديد بالعنف كامكانية واردة. تصمت النساء وتختزل صوتها للقضايا التي تخص النساء فقط. فان كان العنف موجه ضدهن فتكون الائتلافات واسعة وشاملة وطبعاً هذا الامر يتماشى مع "مشاريع حقوق المرأة" ومع الميزانيات التي تصل لدعم هذة المشاريع وتشكل مصدر رزق 90% من هؤلاء النسويات. لكن مقولة عامة مناهضة للعنف بحد ذاته تخفف من اجواء التوتر في الناصرة وتعيد الحياة الهادئة للبلد تعجز عنها النسويات، فالحزب ومصالحه الضيقة فوق الجميع. الى جانب اجواء التوتر والأجواء الطائفية تعود الحمولة معززة مكرمة (راجع بيان ال مزاوي من يومين) لتكون هي المرجعية وهي وحدة الانتماء الاولى والأخيرة، وفي ظل غياب الشرطة والقانون هي التي تحمي الفرد مما سيترتب على وجوب الانصياع والطاعة من الأفراد للحمولة ولقراراتها فهي مصدر امنه وسلامته بدونها هو في خطر وفش حدا يفزعله. خلال شهرين ونصف تعززت البطريركية ورجعنا ثلاثين سنة لورا، فها هي الحمولة تعود للحياة واليوم تصدر بيان كحمولة وغدا ستتخذ موقف كحمولة وستتصرف كحمولة وترد كحمولة وتصوت كحمولة والخ الخ الخ. العنف السياسي له بُعد جندري امتهنت النسويات التنظير حوله لكن على ارض الواقع تصمت النساء وتقف نسويات الأحزاب كالجنود في صفوف احزابها تطيع الاوامر والقرارات. واذا لم تكن كالجنود فلابد انها من الجنرالات التي ترى بالترهيب والطائفية وسيلة شرعية في السعي وراء انجازات التي لابد وان اعيد القول بانها انجازات وهمية. فهنيئاً لكن.

وللنهاية كشخص اللي مش كثير افرقت معه مين راح يربح الأنتخابات وقرر يحترم قرار الناخب ويرضى به اي كان، اقف الان وقفة واضح وصارمة داعمة للجبهة في خيارها للألتجاء للمسار القانوني حتى وإن ادى الامر الى ازمة حقيقية في البلد. كذلك أحث كل الاطراف الى الأستئناف والألتجاء الى القانون هي ايضاً وارفض رفض باتاً الانصياع للخوف لانه ليست هذة هي الطريق التي يجب ان تدار بها امور البلد وعلى كافة الاطراف احترام قرار الناخب اي كان. في حال فوز الجبهة، على قائمة ناصرتي وباقي القوائم والاحزاب احترام هذا القرار ايضا فهو قرارا الناخب. العنف والترهيب مرفوضين رفضاً باتاً حتى ولو بالرمز. وحسم نتائج الانتخابات يجب ان يتم حسب القانون حتى وان اضطرت الناصرة ان تدفع الثمن. وان تم ذلك فرجال الأعمال هم اول الخاسرين الى جانب اهل البلد. فهنيئاً لكم ايضاً. ولعوها واقعدوا على طمها، مبروك عليكم الرماد!

------
ملاحظة على الهامش: الحق يقال انه بالاضافة للجبهة شباب التغيير اسمعوا صوت واضح وغير قابل للتأويل ضد العنف، لكن شباب التغيير لا يمثلوا غير فئة صغيرة من اهالي البلد.

------
نسرين مزاوي - ناشطة نسوية وباحثة في علوم الإنسان.

اذا كانت هذة هي الوطنية فانا لست وطنياً - في ظل اجواء الطائفية في الناصرة المطلوب قيادة تصنع البديل


الانتخابات المحلية في الناصرة هذة السنة أختلفت بشكل واضح عن كل ما سبقها من انتخابات. فخلافا لما سبقها ساد الحملة الانتخابية على مدار ما يقارب الشهرين شعور عام بنزوح الطائفية عن البلد. فمع نهاية التسعينات وبداية الالفية خيمت اجواء طائفية حادة في البلد. سياسياً خدمت هذة الأجواء الحركة الاسلامية في البداية وعادت بالفائدة على جبهة الناصرة (شيوعيون واخرون) فيما بعد حيث ضمنت الجبهة لسنوات عدة اصوات المسيحيين في البلد. خلال العقد الأول من الالفية تراجعت قوة الحركة الاسلامية لأسباب لن اخوضها كما وظهر التيار القومي متمثل بحزب التجمع وحاول دخول الساحة السياسية الا انه لم يحرز انجازا باهرا في الموضوع.

الى جانب اضمحلال الطرح الطائفي في هذة الانتخابات ظهرت بوادر أخرى تسر القلب ومنها ترشح أمرأة لكرسي رئاسة البلدية وهي حنين زعبي مندوبة القائمة الاهلية المتماثلة مع التيار القومي. بالأضافة الى امور اخرى من انشقاقات في الجبهة ومنها ظهور المجموعة الشبابية النشطة "حركة شباب التغيير" والانشقاق الأكبر وهو خروج علي السلام من تحالفه مع الجبهة تحالف دام ما يقارب العشرين سنة، وترشحه للرئاسة كمرشح مستقل مع قائمة مرشحين للعضوية تحمل اسم "ناصرتي".  

لقد كان من المثير بل من الممتع ان الحملة الأنتخابية في الناصرة هذا العام اثارت مواضيع سياسية ونسوية ونصراوية محلية وعامة لم يكن لها مكان في الساحة السياسية من قبل. ومنها النسوية والسياسية المحلية، وسوق الناصرة واقتصادها وازمة السير فيها وعلاقتها مع مرافق تجارية محاذية ومواضيع أخرى.

حتى اللحظة الأخيرة تأرجحت نتائج الانتخابات وما زالت بين على السلام المرشح المستقل المنشق عن الجبهة، وبين رامز جرايسي مرشح الجبهة ورئيس البلدية السابق منذ منتصف التسعينات حتى الان، بفارق 21 صوت تقريبا في المساء كانت لصالح الجبهة وفي الصباح ظهرت لصالح على السلام مما ادى بالجبهة بالبحث عن والسعي وراء كل صوت والتدقيق بالأصوات التي تم الغائها وشرعية الأسباب التي ادت لذلك وطبعاً اللجؤ الى القضاء في هذة الأمور بما فيها البحث والأصرار على اصوات المجندين من ابناء الناصرة.

أصوات الجنود، الطرح الديمقراطي والخطاب الوطني
السعي وراء اصوات المجندين أحرج الجبهة بشكل كبير وذلك لخروجها عن الاجماع الوطني حول قضية التجنيد والخدمة المدنية. لكنه ايضاً فتح سؤال كثير كبير وهو حول الموقف الديمقراطي من حق هؤلاء بالمشاركة بالانتخابات وشرعية اصواتهم وقد طغى على هذا النقاش خطاب "الوطنية والخيانة" وتجاهل جوانب أخرى للموضوع قد تكون جذرية ومبدائية اكثر من فضفاضية الوطنية والخيانة. فالمجتمع لا يخلوا من الكثير من الناس اللغير صالحة والغير كُفء للمشاركة في الانتخابات وعلى راسهن العملاء الموجودين بثياب مدنية والفاسدين اخلاقياً والمتحرشين والمعتدين جنسياً على النساء والأطفال وجرائم كلها لا تقل خطورة عن جريمة الالتحاق بجيش الأحتلال. فما هو المعيار الذي نعتمده عندما نسلب من هذا او ذاك شرعية الحقوق.

نظرة نسوية على خطاب "الخاين والوطني" في سياق النقاش حول اصوات الجنود
حث الجبهة التخلي عن سعيها وراء اصوات الجنود ما هو الا قرار ميداني شعبي بما يخص حق من الحقوق الأساسية لهولاء كافراد في المجتمع. فخطاب "الخاين والوطني" كخطاب "العيب والحرام" هم اليات اجتماعية يستعملها المجتمع لضبط افراده وللمحافظة على قوانينه اللتي لا تكفلها مجموعة القوانين الرسمية في الدولة. بواسطة آليه "العيب والحرام" حافظ المجتمع الفلسطيني على انضباط نسائه وعلى تحديد حريتهم مقارنة مع مساحة الحرية اللتي تمنحهن اياها القوانين الرسمية. وكلنا يعلم ان  الكثير من النساء اللتي لم تحافظ على هذة القوانين الاجتماعية نفذت فيها محاكم ميدانية تعرف باسم "جرائم الشرف".

منذ شهر او اقل تقريبا خرجت النسويات في الداخل على كافة قياداتها النسوية على مختلف اطيافها متكاثفات مع رجال داعمين من كل الاحزاب وعلى رأسهم قيادات هذة الاحزاب لمناهضة هذة المحاكم الميدانية وهذة الجرائم المرتكبة بحق النساء، مطالبات السلطات الرسمية بأخذ المسؤولية وفرض اطار القانون والاحكام الرسمية في هذة القضايا.

آلية "الخاين والوطني" هي ألية اجتماعيا مطابقة لآلية "العيب والحرام" وتعمل بطرق مشابهة. في اشياء بتنعملش وفي اشياء اللي هي "عيب" وفي اشياء اللي هي "حرام". لكن من يحدد ما هي الثوابت هذة التي تحث عليها هذة الأليات؟! وكيف يقوم المجتمع بالتعامل مع هذة الثوابت ومع خروقاتها؟! من يصدر الأحكام ومن ينفذها؟ هل نريد ان نحتكم لمحاكم ميدانية؟! فبعدم وجود اطار رسمي شامل وجامع للمجتمع الفلسطيني في الداخل يبقى اطار الثوابت الوطنية-الاجتماعية اطار فضفاض يسرح ويمرح به كل من يشاء.

لكي نحافظ على ثوابتنا الوطنية نحن بحاجة لاطار شامل وجامع. ومن المفروض انه "لجنة المتابعة" او ما شابهها أن تأخذ وظائف وادوار تمثيلية جامعة شاملة وملزمة، لا تقتصر على امور محلية انما على التمثيل في البرلمان الأسرائيلي وعلى تمثيل فلسطيني الداخل الحاضرين الغائبين والعائق الاكبر في مفاوضات السلام.

وطبعا يبقى السؤال والتحدي الأكبر امام النساء النسويات والقوميات منا بالاساس، هو الحد من المعايير المحافظة التي سوف يفرضها على النساء هذا الأطار. فليس من المفاجئ ان قيادة الأطار الوطني قد تترك مشاكل الدنيا كلها وتشغل حالها بالحد من حرية النساء والمحافظة على المجتمع والهوية من خلال فرض السيطرة على النساء.

عودة الى الناصرة والى ما افرزته من طائفية بعد الانتخابات
نتائج الانتخابات المترنحة بين هذا وذاك ادت بكافة الأطراف الى اللجوء الى كل السبل الممكنة للتأثير على النتائج. فان التجأت الجبهة الى القانون والقضاء، التجاء الأخرون الى الشعب والى قدرته على "التخجيل" و"الترهيب" و"التوعيد" مما اثار توترات الناصرة في غنى عنها. والطابع المهيمن على هذة التوترات هو طابع طائفي فأن اعتقدنا ان الطائفية خارج الناصرة ولا مكان لها منذ بداية الحملة الانتخابية حتى يوم الأقتراع فها هي تعود الى الناصرة من بابها الاوسع غداة الأنتخابات لتحسم المعركة ولتخدم مصالح هذا او ذاك.

خلال اسبوع كامل بعد الانتخابات استشاطت الاجواء في الناصرة وتعالت اصوات المنددين والمتوعدين والمدينين في كل حيز وسياق. هذة التوترات طالت كل النصراويين وكلهم بترقب بما ستؤل اليه البلد في حال كانت النتيجة لصالح هذا او ذاك. والحديث ليس عن توتر وترقب كالذي يسود الأجواء بين محبي فرق كرة قدم، انما ترقب وتوتر بين ناس ما ذالت تذكر الفتنة الطائفية التي عاثت بالبلد خراباً منذ ما يقارب خمسة عشر عام.

اسبوع كامل من هذة التوترات ولم يقم اي من المترشحين والمتنافسين على رئاسة البلدية بإصدار بيان استنكار وتنديد باجواء العنف والطائفية التي لحقت بالبلد. اسبوع كامل ولم نسمع اي مبادرة شعبية لتهدئة التوترات. اسبوع كامل وكل من تلعب الطائفية لمصالحه الان يلعب بأعصاب البلد وباعصاب اهلها. اسبوع كامل من التوتر. اسبوع كامل من قلة الحركة في شوارع البلد. اسبوع كامل من قلة التجارة وربما السياحة ايضا. اسبوع كامل من انعدام الشعور بالأمان. وكافة المرشحين قاعدين يتفرجوا لا بل وكوادرهم بتزيد الطين بلة وبتهوش بالناس.  

والوطنيين طبعا يحلو لهم التهجم على الجنود وعلى اصوات الجنود الغير شرعية بغطرسة وغباء اجتماعي-سياسي يغفل عن حيثيات القضية وعن تفاصيلها الصغيرة المعقدة. ويلعب بهذا الفريق الوطني الى صالح الحكومة فما عجزت عنه الحكومة من محاولات تجنيد خلال سنوات عديدة يقوم الوطنيين المغطرسين منا بأنجازه عوضاً عنها. فالحكومة تقوم بأستهداف فئات الهامش المستضعفة اجتماعيا واقتصاديا، بداء بالدروز ومن ثم البدو والمسيحيين. وكل من هذة الفئات لا يخلو تاريخنا العربي وثقافتنا العربية من ازدرائها وملاحقاتها. فها هم الدروز يسكنون قمم الجبال في فلسطين منذ مئات السنين خوفاً من الملاحقات ويتحالفون مع الحاكم الذي يضمن سلامتهم. وللسكن في قمم الجبال ابعاد اقتصادية لن اخوض بها هنا، واكتفي بالقول بان فرص العمل والتجارة في قمم الجبال تختلف عنها في السهول والساحل، وبهذا يكون القمع مضاعف ديني طائفي اجتماعي واقتصادي. كذلك هو الحال في تجنيد المسيحيين فالحديث المعلن هو حقوق ومساواة والحديث الغير معلن هو التخويف والترهيب من الاخر ومن الملاحقات. واكثر ما يثير العجب من مجتمعنا ومن تركيباته وتعقيداته، هم البدو سكان القرى الغير معترف بها الملتحقين بجيش الإحتلال ويكفي ان تقراء تعليقات بعض النصراويين "الوطنيين" على "كلاب الأثر"  في جيش الأحتلال لتفهم مدى الكارثة الوطنية التي يحملها في جعبتهم هؤلاء "الوطنيين". فالتخويف والترهيب ونظرة التعالي والازدراء، التهميش الأجتماعي والأقتصادي والسياسي هم ما يدفع بهؤلاء الى الجيش الذي يهبهم فتات الأحترام وشعور الثقة والأمان الذي يعجز عنه الوطنيين منا. والسخرية في الموضوع انه هؤلاء الجنود ومنهم من يزاول عمله في الشرطة الأسرائيلية هم من يجولون في شوارع الناصرة الأن لضبط النفوس وللحفاظ على الآمان.

بهذا اليوم اخجل بإنتمائي الى الناصرة. بهذا اليوم اخجل بالخوف الطائفي المتفشي واللذي تعيشه البلد منذ اسبوع. اخجل انه في اليوم الاول انجح باقناع ذاتي بانه لا اساس لهذا الخوف وانه في اليوم الثاني اعجز عن ذلك. اخجل بمتملقي الوطنية في البلد. اخجل بالقيادات السياسية اللي قاعدة تتفرج ولا فيها ولا بقيادتها. اخجل بأنه الامر الوحيد الذي اتمناه الان هو ان اكون بمكان اخر في العالم اي كان بعيدا عن الناصرة وعن اهلها وعن الطائفية وعن كل هذة الفوضى وهذا الأضطراب. هنيئاً، هنيئاً لكم بالوطنية وهنيئاً لكم بالوطن، بس الأرض بلا الناس بعمرها ما بتكون وطن.

وللنهاية استشهد باقوال المربي الفلسطيني خليل السكاكيني (1878-1953)، ففي مقدمة يومياته "كذا انا يا دنيا" التي نشرت في القدس عام (1955): "وما هي الوطنية؟ اذا كانت الوطنية أن يكون الإنسان صحيح الجسم، قويا، نشيطا، مستنير العقل، حسن الأخلاق، انيساً، لطيفاً، فأنا وطني. وأما اذا كانت الوطنية تفضيل مذهب على مذهب وأن يعادي الانسان اخاه اذا لم يكن من بلاده او مذهبه، فلست وطنياً".

-----
نسرين مزاوي - ناشطة نسوية وباحثة في علوم الإنسان. حاصلة على الباكلوريوس في علم الأحياء وعلى الماجستير في إدارة البيئة والموارد الطبيعية.