بين الهويات الطائفية والاجندات الطائفية


مقدمة

أفتتح العام الدراسي 2015-2016 في الداخل بإضراب المدارس الاهلية\الخاصة احتجاجًا على تقليص الميزانيات الحكومية المخصصة لهذة المدارس على مدار ثلاث سنوات بنسبة ما تقارب ال70% من مستحقاتها مقارنة بالمدارس الاهلية\الخاصة الإسرائيلية. وقد اثار اضراب هذة المدارس حفيظة البعض من حيث الإسم الذي تداوله الاعلام الرسمي والاجتماعي في وصف هذة المدارس بالمدارس المسيحية.

للمدارس العربية الاهلية\الخاصة (المسيحية) في البلاد تاريخ طويل، بعضها يعود تاريخها الى الفترة العثمانية وبعضها اقل، وحتى النكبة شاركت هذة المدارس هذا التاريخ مع المدارس الاهلية\الخاصة (المسيحية) في الدول العربية المجاورة، فمدارس الفرنسيسكان على سبيل المثال وجدت في كل من لبنان والاردن وفلسطين ومصر وسورية والعراق.

على مدار سنوات اعتاد فلسطينيي الداخل على الاسم "مدارس اهلية" او "مدارس خاصة" للأشارة الى هذة المدارس، وبالرغم من الاسماء المسيحية البارزة لكل منها: "الكلية الارثودكسية" او "كلية مار الياس"  او "راهبات مار يوسف" او "المعمدانية" او "الاكليريكية" او "راهبات الناصرة" او "راهبات المخلص" او غيرها، وبالرغم من التبعية الكنسية الواضحة لهذة المدارس الا انها لم تكن مركزية في التعامل معها، وخدمت هذة المدارس ابناء المجتمع الفلسطيني من كافة الطوائف وعرفت على مدار السنين كمدارس اهلية وكمدارس خاصة وليس كمدارس مسيحية.

لن اتوسع هنا في المهمة التربوية وفي الدور الاجتماعي الذي لعبته هذة المدارس في حياة المجتمع الفلسطيني في الداخل بعد النكبة، كما ولن ادخل في الادوار والمواقف السياسية لكل من هذة المدارس فهي تختلف فيما بينها، وسأكتفي بالقول انه في حين تقاعست الحكومة عن الإستثمار في المدارس العربية، اخذت المدارس الاهلية على عاتقها مهمة انشاء اجيال مع تحصيل علمي عالي نسبيا يمكنهم من الالتحاق في الجامعات وباتت هذة المدارس تنافس افضل المدارس الإسرائيلية وبعضها ترأس لسنوات قائمة افضل المدارس في إسرائيل.

اضافة الى المدارس الأهلية\الخاصة "المسيحية"، قامت في العقدين الاخيرين مدارس عربية بديلة (مدرسة حوار في حيفا، ومدرسة مسار في الناصرة، ومدرسة اهلية اسلامية في الرملة واخرى في اللد)، وهي ايضًا مدارس اهلية\خاصة الا انها تتبع لجميات اهلية مستقلة ويختلف تاريخها كليًا من حيث حداثته ومن حيث خصوصيته عن السابقة، وتعاني هذة المدارس من قضايا مختلفة عن ما تعانيه الأولى.

من هنا فإن اضراب المدارس (في مرحلته الاولى) اقتصر على المدارس الاهلية "المسيحية\الكنسية"، حيث ان الأجندة الحكومية التي ضربت هذة المدارس هي اجندة عنصرية-طائفية، ضربت المدارس الاهلية "المسيحية" خاصة وليس الاهلية العربية عامة، وخلال هذة الأزمة والاضراب ظهر اسم "المدارس المسيحية" في الإعلام الرسمي التابع لاجندات سياسية  كما وفي الإعلام الإجتماعي المُسيس منه والعفوي، في حين تنوعت التسميات في الإعلام العربي المحلي.

تساؤلات يثيرها الجدل الداخلي حول الحاق الأسم "مسيحية" بما عُرف حتى اليوم بالمدارس الأهلية\الخاصة

الى جانب ارتباط الإسم بشكل مركب ومباشر مع اجندة طائفية تستهدف المجتمع الفلسطيني، إلا ان الجدل الداخلي حول الحاق الاسم "مسيحية" بالمدارس الاهلية  يثير السؤال حول قدرة النضال الوطني والهوية الفلسطينية الشاملة على استيعاب كافة الهويات التي تركب المجتمع الفلسطيني. فهل قضية الاوقاف الاسلامية مثلا (التي انتقلت من ادارة الدولة العثمانية الى ادارة سلطات الانتداب ومن ثم الى ادارة الدولة الصهيونية التي تُهملها ولا تستثمرها في الصالح العام) تتحول الى قضية طائفية لمجرد الحاق الاسم "اسلامية" بها، ام ان التسمية هي جزء من تعريف القضية ومن دلالاتها التاريخية والدينية ولا يفسد الإسم من وطنية القضية التي تعني كافة الفلسطينيين مسيحيين كانوا ام مسلمين؟

هل النضال الوطني باستطاعته احتواء وإستيعاب كافة الهويات الموجودة فيه، ام انه نضال ركيك تهدده هويات الأقليات الطائفية؟ وإن كانت الهوية الفلسطينية مهددة من هويات الأقليات التي تركبها، فربما من الاجدر بنا مسائلة الهوية الفلسطينية ومسائلة النضال الفلسطيني الجامع وعدم الهروب من هذة المسائلة الى الغاء الهويات الطائفية للأقليات، فإسقاط الطائفية السياسية على الهويات الطائفية المسيحية او الدرزية او غيرها (كأنها حتما اجندة سياسية نقيضة للوطنية القومية) ما هي الا بمثابة تخوين وتكفير سياسي وطني قومي.

من مظاهرة المدارس الاهلية امام المكاتب الحكومية في القدس
ومن الواضح ان الطائفية والهويات الطائفية تهدد الهوية الفلسطينية وتهدد النضال الفلسطيني القومي الجامع، والا فلم يكن هذا الجدل ليُثار، فإزاء ذلك هل نقوم بالغاء هذة الهويات وقمعها للحفاظ على الهوية الجامعة، ام نقوم بتعزيز الهوية الجامعة وتقويتها لتستطيع احتواء جميع الهويات دون ان تكون مهددة منها؟

هل يجب ان نصل الى وضع نقول فيه "انا فلسطيني مسيحي وافتخر" على غرار "انا عراقي مسيحي وافتخر" او "انا سوري مسيحي وافتخر"، ام انه من المفهوم ضمنا وجود مسيحيين عرب وهويتهم الطائفية ليست حتما اجندة سياسية طائفية وليست تهديد على شمولية القضية الوطنية؟

وللنهاية لا بد ان اقول انه منذ صغرنا ربينا على مقولة: الدين لله والوطن للجميع، واتسأل اليوم منذ متى صار الدين نقيض الوطن والوطنية؟! اليس هذا بذاته تذويت للطائفية؟! الهوية الجماعية العامة والشاملة مهمة جدا لكن من الأصح ان تتعايش هذة الهوية مع باقي هويات افرادها المختلفة وليس ان تمحيها وتضطهدها او تقمعها لتوحد صفوفها فتمحي معها التنوع الثقافي والحضاري للجماعة وللمنطقة. الإنتماء الطائفي ليس بالضرورة طائفية سياسية، وان  اساءت "الوطنية السياسية" التعامل معه سيكون مصيرنا السياسي طائفي حتمًا.

الهويات مركبة وليست احادية سطحية، وهي داخليه تنبع من داخل المجتمع ونعتز بكل الهويات والطوائف الموجودة فيه، ام الأجندات السياسية الطائفية فهي اجندات خارجية تسقط علينا من الخارج وتعمل بمبداء فرق تسد. فهل نواجه الموضوع من خلال الغاء التنوع الطائفي الموجود وكبته، ومن خلال قمع الأفراد تكفيرهم تخونيهم وترهيبهم (ان رفعوا علم اصفر ابيض)، ام من خلال التعامل مع كل طائفة كمركب عضوي في المجتمع يستطيع المجتمع باشمله استيعابها واحتوائها؟ هل ممكن بناء تضامن اجتماعي ولُحمة اجتماعية وطنية شاملة بين افراد من ديانات مختلفة ام ان ذلك مستحيل فنلجاء الى اخماد هذة الهويات والتغاضي عنها وكبتها لانها تهدد سلامة المجتمع وسلامة الوحدة الوطنية؟!

ولا يوجد لدي جواب واحد، فنعم التعامل مع هذة المدارس كمدارس مسيحية هو جزء من اجندة سياسية طائفية، وعلى الأغلب ان يكون هذا هو الجواب الصهيوني لمواقف الفاتيكان المتقدمة حيال القضية الفلسطينية، لكن الهوية المسيحية هي جزء من الهوية الوطنية ورفض هذة الهوية وكبتها والتعامل معها كأنها اساءة وطنية ما هو الا طعن في النضال الوطني لإضعافه وتحويله الى نضال طائفي فئوي، وإن كفلسطينيين هددتنا الهوية المسيحية العربية باعلامها البيضاء والصفراء فالأفصل بنا مراجعة الهوية الفلسطينية.