في اليوم العالمي للغة العربية، من المهم أن نلفت الانتباه إلى أن كمية إنتاج المعرفة باللغة العربية مقارنة مع باقي لغات العالم تقريبًا تكاد تكون معدومة.
اللغة العربية تأتي في المرتبة الخامسة من حيث عدد المتحدثين في العالم، بعد
الانجليزية والماندرين والهندية والاسبانية، حيث يبلغ عدد متحدثيها حوالي 274
مليون شخص. يجدر بالذكر أن هذا العدد يفوق عدد متحدثي اللغة الألمانية والفرنسية والروسية
واليابانية، ومع ذلك، إلا أن كمية الإنتاج الفعلي للمعرفة باللغة العربية تبقى
تقريبا على مستوى متدن بالمقارنة مع باقي لغات العالم.
في حين أن لغات مثل الألمانية والفرنسية والإسبانية، وربما غيرها أيضًا، تفرض
مدارسها الفلسفية والمعرفية التي قد تختلف بمضمونها وبأساليبها تلك التي نجدها في
اللغة الإنجليزية، حيث يرافق الاختلاف باللغة، اختلافًا بالمعاني بوجهات النظر بالتعبير
وبالتحليل، إلا أن إنتاج المعرفة باللغة العربية يبقى على الهامش الاهتمام العام. فإذا
كنت ترغب في قراءة مقالة جيدة عن ابن خلدون او عن ابن رشد، على سبيل المثال، ومراجعة
تحليلات حديثة لأعمالهما، فستحتاج بالضرورة إلى قراءتها باللغة الإنجليزية. يمكنك
أحيانًا أن تجد ترجمات لبعض المواد، وغالبًا ما تكون غير كافية، أو ربما قديمة
نسبيًا تعود إلى الستينيات او السبعينيات ولا ارتباط بينها وبين قضايا عصرنا الحالي.
بالإضافة إلى ذلك، قد تجد النص الأصلي، إذا لم يتم تدميره أو حظره أو فقده
تمامًا، لكن إذا كنت تبحث عن محتوى حديث ذي قيمة، فمن النادر أن تجده إلا باللغة
الإنجليزية، حتى إذا كان الكاتب عربيًا. وعادة ما يكتب بالكتًاب العرب باللغة
الإنجليزية، وتُلقى مهمة ترجمة أفكارهم على أشخاص آخرين، مما ينتج نصوصًا محرّفة تعكس
تأثيرًا كبيرًا لأفكار المترجم والمحرر إن وجد في النص، وتفتقر إلى نقاء أفكار
الكاتب الأصلي.
فهنيئا لجميع المفكرين العرب الذين يكتبون بلغات أخرى أو الذين تتاح لهم بالكتابة
بلغات أخرى، فعملية إنتاج المعرفة ليست مقتصرة على الكتّاب وحدهم، بل تحتاج الى
مؤسسات لتدعم هذه العملية، وهنيئا للغة العربية التي تزودنا بالعديد من الفهلوات
اللغوية المميزة، مثل قدرتنا على التعبير عن الحب بما يزيد عن عشرين كلمة، وقدرتنا
على أيصال رسالة طويلة في كلمة واحدة قد تحتاج الى جملة لتمريره بلغات أخرى، او وهنيئا
على جملة يمكن قراءتها من اليمين الى اليسار ومن اليسار الى اليمين دون أن تفقد
معناها، والعديد من الفهلوات اللغوية الأخرى الملائمة للمتاحف وللإعلانات وربما للفنون،
لكن تبقى الغاية الحقيقية لوجود لغة والمعنى الحقيقي لوجودها فارغًا، عاجزًا عن إنتاج
معرفة ونقلها بين الأجيال وعبرها.
قد يطول الحديث في أسباب الحالة اللي وصلنا إليها وفي سبل الخروج منها، لكن
جزءًا كبيرًا من هذه الأسباب يعود إلى الأشخاص الذين يشغلون أنفسهم حاليًا بالأخطاء
اللغوية الي وردت في هذا النص أكثر من أي شيء آخر. تقديس اللغة وتحريم استخدامها من قبل غير
متقنيها يُعَدُّ سببًا أساسيًا في الشلل المعرفي والفكري الذي وصلت إليه اللغة
العربية. حيث يتم احتكار اللغة كحيز عام لإنتاج المعرفة، ويُقتصر استخدامها على أولئك
الذين يتقنوها دون أخطاء، وغالبًا ما يكون هؤلاء من حُرَّاس المقدسات الفكرية والمحرمات
والمحظورات المعرفية.
إنتاج المعرفة باللغة العربية هو مشروع تحرري يعتمد على إرادة كثير من الأفراد
وليس على إرادة فرد واحد فقط، ويتطلب منك الأمر أن تفكر باللغة العربية، لا أن تقوم
بترجمة أفكارك إلى العربية، بل أن تشتبك في حوارًا أصيلًا مع ذاتك ومع الأخرين
بالعربية. فاللغة ليست مجرد أداة للتعبير عن الأفكار، بل هي أداة لإنتاج الأفكار والمفاهيم
والمصطلحات والتعابير عنها في سياق ثقافي تناقلته عبر اللغة أجيال وأجيال تكلمت بهذه
اللغة وشكلتها بما يتناسب مع ظروف حياتها واحتياجاتها.
هذا
المشروع يختلف عن مشروع إنتاج المعرفة باللغة الإنجليزية الذي امتاز في السنوات
الأخيرة بطابع تجاري بالإضافة الى طابعه الاستعماري والامبريالي. إن مشروع التحرر المعرفي
ليس مجرد مشروع ترجمة الأفكار أو زيادة مناليتها، بل هو مشروع تحرر من القيود
الفكرية والمعرفية التي تفرضها اللغة بقوالبها الثقافية وبتراثها الثقافي، إنه مشروع
اختراق أفكار وحوارات وجدل تطغى عليها مفاهيم وتصورات المستعمر. إنتاج المعرفة في
الأطراف، من خلال استخدام واعتماد لغة مختلفة عن تلك اللغة المهيمنة في المركز، هو
الطريق إلى اختراق جدار الوعي والى التحرر المعرفي.