للوهلة الأولى يبدو الموضوع كبيرا ومعقدا وننصح عادة بأن نخلي الخبز لخبازيه والاقتصاد لفهمانيه إلا أن الموضوع أبسط من هذا بكثير.
أود أن أبدأ بأن هذه الأزمة كانت متوقعة وهي ليست بأمر مفاجئ فالانهيارات والأزمات هي جزء من النظام الاقتصادي العصري ما لم يكن متوقعا هو حدة الأزمة وتوقيتها الزمني. قد يقول البعض إن هذه الأزمة أزمة عابرة كالأزمات الاقتصادية السابقة تهز الوضع قليلا أو تزعزعه إلا انه سريعا ما يعود الى حاله، أما أنا شخصياً فبطبيعتي المتفائلة في الفترة الأخيرة آمل أن تكون هذه الأزمة هي الأزمة المنتظرة التي ستولد التغيير في النظام الاقتصادي الرأسمالي وقد بدأت تظهر بوادر التغيير وها هي الدول الأوروبية العظمى تدعو الى اعادة النظر في قواعد الرأسمالية.
لن أستطيع التطرق إلى الأزمة الاقتصادية فأنا لست من "خبازيها" ولا إلى النظام الرأسمالي عامة إلا إنني أود أزالة بعض من الأوهام والضبابيات حول رؤيتنا للمال والنظام الاقتصادي الرأسمالي وربطها مع القضايا البيئية.
في البداية أود التطرق إلى أن المال يأخذ قيمته من ثقة الناس به، الناس تتبادل العملة والأوراق النقدية فيما بينها لأنها تثق أن الآخرين سيأخذونها مقابل منتوج معين أو عمل ما. في اللحظة التي يراود الشك قلوب الناس حول أمكانية تقبل الآخرين لهذه الأوراق تتوقف عملية التبادل وبهذا تفقد هذه الأوراق قيمتها.
أحد المعتقدات الشائعة انه مقابل المال الموجود بأيدي الناس أو في البنوك يوجد للدولة كميات ذهب مماثلة لكن ليس هذا هو الحال.
في القرن التاسع عشر ارتبطت كمية العملة التي تصدرها دولة معين بكمية الذهب الموجودة لديها، (ليس كل الدول ولم يكن الأمر كذلك منذ الأزل) وتعاظمت قوة المملكة أو الإمبراطورية بحسب كمية الذهب الموجودة لديها وشهدت هذه السنوات حملات تنقيب حول الذهب في أفريقيا وفي أمريكيا الجنوبية وتطورت معها النظم الاستعمارية.
في نهاية القرن التاسع عشر بأعقاب نتائج الثورة الصناعية ظهرت بوادر جديدة في فرنسا ترى أن عظمة الدولة مرتبطة بقدرتها على الإنتاج وليس بكمية الذهب المتراكمة لديها إلا أن هذه الأفكار لم تلق أذنا صاغية حتى قام الانجليزي أدم سميث بقضاء عدة سنوات في فرنسا تعرف خلالها على هذه الأفكار وعاد بها إلى بريطانيا لتلقى ترحيبا ونجاحا عظيم.
كانت بريطانيا أم الثورة الصناعية أول الدول التي فكت ربط عملتها بكمية الذهب الموجودة لديها سنة 1931 وبهذا أخرجت نفسها من الأزمة الاقتصادية التي داهمت العالم في نهاية العشرينات، حيث زودت أسواقها بالأموال (بدون أي علاقة بكميات الذهب) وحركت الأسواق ودوائر الإنتاج، ولحقت بها الدول الأوروبية التي عانت من الأزمة الاقتصادية وأخيرا الولايات المتحدة الأمريكية عام 1971.
النظام الاقتصادي الحديث يعتمد على القدرة على الإنتاج، تتعاظم قوة الدولة كلما كبرت قدرتها على الإنتاج.
عملية الإنتاج تعتمد على وجود سوق لهذه المنتوجات وبكلمات أخرى على عملية استهلاك. في اللحظة التي تتباطأ بها عملية الاستهلاك تتباطأ أيضاً عملية الإنتاج وتتباطأ عملية نمو المصانع والشركات المختلفة وبهذا تنخفض قيمة التداول لهذه الشركات في سوق الشركات - البورصة. أنخفاض أو ارتفاع قيمة التداول لشركة واحدة أو لمصنع واحد قد يدل على نجاح هذه الشركة أو فشلها في ترويج منتوجها في السوق لكن أن يحدث هذا لكل الشركات في أن واحد؟!!!!
هل ممكن لكل السوق ان ينجح في أن واحد وأن يخسر في أن واحد؟!!! من أين تظهر هذه الأموال التي تدل على نجاح السوق والى اين تختفي؟!! أين أختفت كل هذة الأموال وهل هي موجودة بشكل فعلي ومحسوس أم انها ارقام في ارقام تطلع تنزل لكن في الحقيقة هذة الأموال غير موجودة أصلاً!!!!
هذه الأموال/الأرقام المتداولة تعتمد نجاحات مستقبلية ستحققها هذه الشركة أو تلك، وبما أن الناس تثق أن هذه الشركة ستحقق نجاحات فتقوم باستثمار أموالها فيها وبهذا تتحول عملية الاستثمار بحد ذاتها إلى نجاح، أحيانا بدون أي علاقة في عملية الإنتاج الفعلي. عملية الاستثمار تحفز عملية الإنتاج، وبهذا تزيد من تعاظم قوة المصنع/الشركة أو الدولة. طبعا هذا الأمر مشروط بأسواق تستوعب هذا الإنتاج، وكثيرا ما نسمع عن اتفاقيات التجارة الحرة بين الدول وغالباً ما تكون مفروضة من قبل الدول القوية ومن مصلحتها لتزيد من قوتها ومن الأسواق المفتوحة أمامها لترويج منتجاتها.
طبعاً كل هذه العملية تعتمد بشكل قاطع على ثقة الناس بها (مش على الذهب)، أولاً الثقة بان هذه الأوراق النقدية أو الأرقام المسجلة في حساباتنا في البنك لها قيمة فعلية ثانية وبمستوى أكبر أن عملية الإنتاج العامة ستستمر وستحقق نجاحات على المستوى العام. ومن هنا فأن الجهاز الاقتصادي الحالي يعتمد بشكل قاطع عل ثقة الناس به، زعزعة أو فقدان الثقة في المال وفي النظام يؤدي إلى ركود ومن ثم إلى أزمة وفي حال استحالة تداركها إلى انهيار.
البنوك والمصارف لاعبون مهمون في هذه الدورة، في البداية تطورت البنوك كمكان يمكن الائتمان به على الأموال ومن ثم تحولت إلى وسيط بين الناس وبين الأطراف المختلفة فتحول المال مباشرة من حساب إلى آخر أو من بنك إلى آخر، ومن ثم أخذت البنوك دورا مركزيا في تشجيع عملية الإنتاج العام، فبواسطة القروض المصرفية تقوم المصارف بتدوير المال بين الناس وتعتمد الإنتاج المستقبلي الذي سيقوم به كل شخص وشخص لتسديد هذه القروض، فإذا تكاسل أحدهم يقوم البنك بالحجز على ممتلكاته وبيعها واسترداد ما له من مال، أما إذا تكاسل الجميع أو بسبب ركود اقتصادي توقفت عملية إنتاج الجميع، فماذا سيفعل البنك مع كل هذه الممتلكات وكيف سيحولها إلى مال؟!!!! وكيف يعطي قيمة للأرقام المسجلة في الحسابات والمؤتمنة لديه من قبل الناس.
ويطرح السؤال ما الذي يؤدي إلى توقف هذه الدورة/العملية؟ ولهذا السؤال لا يوجد جواب فكل العملية مبنية على ثقة الناس بالنظام واستمرارية الإنتاج أما أسس النظام فهي ليست واضحة أو متينة وأي سبب قد يؤدي إلى زعزعة الثقة في النظام وبالتالي إلى زعزعة النظام.
والسؤال الذي يطرح نفسه وما من مجيب: هل ممكن أن تتم عملية أنتاج لامتناهية في عالم متناه؟؟!!!
لا اخرج اليوم ضد النظام الرأسمالي لأنني شيوعية (ويعتقد البعض أن النقيض الوحيد للرأسمالية هو الشيوعية) بل لأنني بيئية فعملية الاستهلاك اللامتناهية هي عملية استهلاك للكرة الأرضية ومواردها الطبيعية بدون أخذ بعين الاعتبار المضار البيئية التي تسببها هذه العملية وبدون أخذ بعين الاعتبار رفاهية الأجيال القادمة وما نترك لهم من الكرة الأرضية أو حتى رفاهية الأجيال الحالية فقد تضم سلة الاستهلاك نفقات علاجية أو نفقات حربية ونفقات أصلاح وإعادة ترميم ما بعد الحرب وكلها تسجل بشكل ايجابي في مؤشر النمو الاقتصادي، لكنها في الحقيقة لا تعبر عن رفاه اجتماعي أنما عن عملية إنتاج واستهلاك بحتة ليس لها أي علاقة برفاهية المجتمع وقد تكون معاكسة ومناقضة لها.
أما فقدان البنى الاجتماعية الداعمة تزايد العنصرية العنف والسلاح، تفشي الأمراض أو فقدان موارد بيئية وطبيعية استغلت اليوم ولن تكن موجودة غداً فكل هذه ليس لها علاقة في النمو الاقتصادي ولا تأخذ بالحسبان في الحديث عنه ومازال مؤشر النمو الاقتصادي يعتمد للدلالة على رفاهية المجتمع وعلى نجاح الحكومات، أمثال حكومة نتانيهو وبوش وساركوزي وغيرهم.
© حقوق النشر محفوظة
نسرين مزاوي – ناشطة اجتماعية حاصلة على اللقب الثاني في أدارة موارد بيئية وطبيعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق