قمة كوبنهاجن – القصة وما فيها

تنعقد قمة كوبنهاجن للمناخ في أطار معاهدة الأمم المتحدة للمناخ الموقعة عام 1994. وتعتبر سنوات التسعين من اهم السنوات في الخطاب البيئي الدولي وأهم الامور الموضوعة على طاولة المفاوضات في كوبناهجن اليوم هي بروتوكول كيوتو وصندوق التكييف المخصص لدول الجنوب. سأحاول هنا أستعراض هذين الموضوعين والمعضلات الأساسية حولهم بشكل مقتضب لمحاولة توضيح الشرخ البيئي بين دول الجنوب ودول الشمال.

اولاً بالنسبة للخلاف "العلمي" حول تغيرات المناخ والأحتباس الحراري أود التنويه بأن الخلاف الموجد ليس حول ماهية الموضوع أنما حول تفاصيله، ففي الواقع يوجد أجماع عام بين كافة العلماء على التغيرات المناخية الناتجة عن النشاط الصناعي البشري وعلى الأحتباس الحراري والخلاف هو حول فتحة الزمن الموجودة أمامنا للتدارك الأمور. طبعاً في كثير من الأحيان الأعلام يصور الموضوع وكان الخلاف هو بين وجود المشكلة أو عدم وجودها وذلك وفقاً للمصالح السياسية والأقتصادية للجهات التي قد يخدمها ذلك التمويه وعلاقة هذة الجهات مع الأعلام وسيطرتها عليه. والمعضلة المطروحة هي هل نقوم بتقليص الأنتاج الصناعي اليوم أو بعد عشرين سنة مثلاً وهل نقوم بتقليص كميات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 5% أو 30% أو ربما 80%؟!

عامة نستطيع أن نميز بين سيناريوهات أثنين: المتفائل والمتشائم، يمكننا اتباع السيناريو المتفائل ونتابع أعملنا كعادتها وبعد عشرين سنة نكتشف ربما أصبنا أو ربما أخطئنا وهكذا يكون أحتمال نجاحنا 50%، أو قد نتبع السيناريو المتشائم الذي سيفرض علينا تغيير أنماط حياتنا اليوم وايجاد طرق بديله ودوده للكرة الارضية وباعقاب هذا التغيير لن نعلم ابداً اي من السيناريوهات صدق لكننا سنبعد الخطر المنبثق عن تغيرات المناخ وتكون أحتمالات نجاحنا 100%. وهنا تكمن المعضلة أي من السيناريوهات نختار وما هو مقدار "التشاؤم" أو "التفائل" في السيناريو الذي سيتم الأتفاق عليه والعمل بموجبه. طبعاً القضية هي ليست قضية نفسيات أو مزاجيات انما قضية ربح وخسارة، مصالح أقتصادية دولية وعلاقات قوة سياسية.

اولاً للدول العربية دور هام في الموضوع، فبعضها مصدر للنفط وابرزهم السعودية ومن مصلحة هذة الدول اتباع السيناريوه المتفائل بأقصى حد حيث يحافظ هذا السيناريوه على قيمة ذهبها الأسود، النفط، بينما يقوم السيناريو المتشائم بالحد من أستهلاك النفط والتوجه الى مصادر طاقة بديلة وسيفقد النفط قيمته. خلافاً لذلك جزء أخر من الدول العربية عضوة في ائتلافات مختلفة لدول الجنوب وعلى رأسها كتلة الدول الأفريقية حيث بادرت بتحفيز جزائري الى مقاطعة المفاوضات أمس احتجاجاً على نهج التمويه وممارسات المراوغة لدول الشمال في المفاوضات.

عودة الى بروتوكول كيوتو حيث تم التوقيع عليه سنة 1994 وأنسحبت منه الولايات المتحدة مع تولي جورج بوش الأبن للرئاسة عام 2000. بروتوكول كيوتو هو اتفاق قانوني دولي يفرض على الدول الصناعية (دول الشمال) بتخفيض شامل لأنبعاثات ثاني اكسيد الكربون فيها بنسبة 5.2% نسبة لأنبعاثات سنة 1990. هذة النسب تختلف من دولة لدولة حيث تكون في أوروبا على سبيل المثال 8% في الولايات المتحدة 7%، اليابان 6% وفي روسيا 0%. ام بالنسبة لدول الجنوب وهي بطبيعتها الغالبة دول زراعية غير صناعية فلم يفرض عليها البروتوكل أي تحديد على العكس تم تخصيص حصص ايجابية من الهواء لهذة الدول وفيما بعد في عام 2007 تم الأتفاق على تبادل هذة الحصص مع الدول الصناعية مقابل مبالغ مالية تخصص للتكيُف للأضرار الناجمة عن تغييرات المناخ وتطوير تقنيات ودودة للكرة الارضية للنهوض بالأقتصاد المحلي.

تحصى الصين على دول الجنوب واعتبرت في ذلك الحين دولة نامية فلم يتم تحديد حصتها من الانبعاثات الغازية، طبعاً هذا الأمر أثار حفيظة الولايات المتحدة حيث أن الصين والولايات المتحدة مجتمعات معاً لهم حصة الأسد 40% من هذة الانبعاثات. عملية تقييد الولايات المتحدة مقابل فك رسن الصين في أنتاجها الصناعي له ابعاد أقتصادية كبيرة على كل من الدولتين، ولا ننس أنه خلال الأزمة الأقتصادية الأخيرة الصين كانت أحدى المرشحتين بالأضافة الى أوروبا لوراثة الولايات المتحدة بهيمنتها الأقتصادية العالمية.

طبعاً ليس الأمر بهذة البساطة أن الأنتاج الصناعي للصين وبالتالي الأنبعاثات الغازية التي تنتج عنها لا تشتق أبداً من عدد سكانها، فأن ما تنتجه الصين للأخرين يعود بالمردود الأقتصادي على الصين الا انه خارج أثر القدم البيئي لمواطينيها. وأثر القدم البيئي هو سلم لقياس مساحة الأرض الهواء والماء الذي يحتاجهم شخص معين لحياة بنمط معين، فعلى سبيل المثال أثر القدم البيئي في الهند 8 دونم للفرد بينما هي في هولندا 47 دونم للفرد و مساحة الارض المتوفرة للفرد في الهند هي 4 دونم للنسمة بينما في هولندا 8 دونم للفرد ومن هنا نجد ان الهند ينقصها 4 دونم للفرد لتحافظ على نمط حياته الموجود اليوم بينما ينقص هولندا 39 دونم للمحافظة على نمط حياه سكانها.

المعدل العالمي لأثر القدم البيئي هو 22 دونم للفرد بينما المساحة المتوفرة على الكرة الأرضية هي 18 دونم للفرد من هنا فنحن نحتاج الى ما يقارب 4 كريات أرضية أضافية لكي يستطيع كلٌ منا الحفاظ على نمط حياته الموجود اليوم. في هذا السلم تقع الصين تحت المعدل العام حيث أن أثر القدم البيئية في الصين هي 15 دونم للفرد بينما تتصدر الولايات المتحدة هذا السلم وتكون أثر القدم البيئية فيها 95 دونم للفرد تليها كندا 64 دونم للفرد وفي المرتبة الثالثة هنيئاً وهنيئاً اسرائيل 53 دونم للفرد. وبينما ينقص الولايات المتحدة 46 دونم للفرد ينقص أسرائيل 49 دونم للفرد ووبهذا تكون هذة أكبر فجوة عالمية بين المطلوب والموجود بينما تكون الصين في أدنى هذا السلم مع نقص 7 دونم للفرد.

غالبا ما نسمع الأدعاء بأن التضخم السكاني هو أعوص القضايا البيئية الا أنه يمكننا القول بأن هذا الادعاء فقد مصداقيته بالرغم من أنه ما زال يستعمل بسطحية من قبل بعض المغرضين فقد يكون التضخم السكاني مشكلة بيئية الا ان المشكلة الأعوص هي نمط الحياة فأن أرد كافة سكان العالم الحياة بنمط حياة أمريكي لأحتجنا الى 16 كوكباً موازيين للكرة الارضية لكن في تحولنا الى أنماط حياة مختلفة ودودة للكرة الأرضية قد تستطيع الكرة الأرضية تحمل عدد السكان الموجود اليوم وربما أكثر بدون أي مشكلة.

والسؤال الذي يطرح هو: لماذا اذاً لا نغير انماط حياتنا؟! طبعاً أحد الأسباب ذكرت سابقاُ فأن تغيير انماط الحياة سيغير قواعد اللعبة وموازين القوة وكل من الدول "العظمى" تريد المحافظة على مكانتها في هذة اللعبة فأن الأمر أشبه بطفلين كل منهم يمسك بخناق الأخر وكل ما تسمعه هو "فلت بفلت" "أنت أول، لا أنت أول"!!! وهكذا هي للأسف الشديد صورة الوضع المنبثقة عن المفاوضات في قمة كوبنهاجن.

ومن مراوغات دول الشمال انها تحاول أستبدال البروتوكول بأتفاقية أخرى تحدد فيها نسب أنبعاثات أخرى وفقاً للسيناريو المتفائل أو نسبة لسنوات اخرى لاحقة لسنة 1990 وهي سنوات قامت بها هذة الدول بزيادة وتكثيف انتاجها الصناعي علماً انها ستحد منه مستقبلا بشكل نسبي، بينما تود دول الجنوب تمديد أتفاقية كيوتو كما هي الى عام 2020 وهي اليوم سارية المفعول حتى 2012 الا اذا تم ابطالها الأن. أضافة الى ذلك فيوجد التباس في موضوع صندوق التكييف لدول الجنوب حيث قامت دول الشمال بأعطاء وعود لدفع مبالغ معينة مقابل حصص التلويث الا أنها تعتمد التمويه حول هذة المبالغ وحول كونها بديلة أو جزءا من التزامات أخرى بين هذة الدول. ومن الجانب الأخر تقوم بعض دول الجنوب بسبب الفساد المتفشي بها بالتصرف بهذة الميزانيات بشكل مخالف بتاتاً للأتفاقيات ناهيك عن ان بعض منها قد لا تجد له أثر بتاتاً.

وان تكلمت سابقاً عن أسرائيل فأن أحدى المفارقات الساخرة أن أسرائيل بتقنياتها المتقدمة وبصناعتها المتطورة وبنمط حياتها المبذر للكرة الأرضية تُعد دولة نامية وبهذا لا تحد الأتفاقية من كمية الغاز التي تقوم أسرائيل بأنتاجها، ومما يميز مفاوضات المناخ عامة وهذة القمة بالذات هو وجود عدة مجموعات وائتلافات تقوم كل منها بأجتماعاتها الخاصة بالاضافة الى الأجتماعات العامة الا أن أسرائيل لم تجد لها مكان بين هذة الأئتلافت حتى اليوم فدول الجنوب ترفض وجودها بأي من ائتلافاتها بينما أنضمامها الى دول الشمال سيفرض عليها ألتزامات هي في غنى عنها. وبينما تنخفض نسبة الأشجار في كافة دول العالم، وهي احد العوامل الهامة في ارتفاع نسبة الكربون في الجو، تتباهى أسرائيل بالأضافة الى تقنيتها المتقدمة، بكونها الدولة الوحيدة التي تزيد فيها نسبة الأشجار سنوياً متجاهلة وغافلاً عن عيون الاخرين أستعمال أسرائيل للأشجار والتشجير كأدة للسيطرة على الأرض ولتشديد القيد على الأقلية الفلسطينية وعلى البلدات العربية فيها. في ذات الوقت لا يمكنني تجاهل العمل البيئي النشط للجمعيات البيئية الأسرائيلية ومشاركتهم الفعالة في المؤتمر وجهودهم اليومية الكبيرة لتطوير أجندة بيئية محلية والدفع بها قدماً.

وأخيراً تقع على عاتق الفلسطينين في الداخل كغيرهم من سكان العالم مسؤولية بيئية اخلاقية، فنحن مشابهون لدولة أسرائيل في مكانتنا الحدية (liminal) التي لا تخلو من الأزدواجية والثنائية ننغم بنمط الحياة الأستهلاكي المبذر للكرة الأرضية وفي الوقت ذاته نشكل أقلية قومية مقموعة سياسياً أقتصادياً ومضطهدة بيئياً. وبالرغم من النقاش السياسي الطويل حول ديمقراطية الدولة وعلاقة المواطن الفلسطيني بها ومعنى المواطنة أو شرعيتها ألا ان هذا ليس بذريعة للتنصل من المسؤولية الأخلاقية ومن دورنا في عملية قمع الأخرين ومن هنا تقع على عاتقنا مسؤولية المواطن في "الدولة الديمقراطية"، وهي التوعية والمشاركة السياسية بتوافق مع الرؤيا الأصلانية والتأثير على متخذي القرار بكل الطرق الممكنة للحد من الأحتباس الحراري ومن عمليات تغير المناخ وللدفع قدماً بأجندات بيئية محلية وعالمية تعتمد خطاب العدل البيئي ومبادئ التطوير المستدام.

Change the politics and save the environment


© حقوق النشر محفوظة
نسرين مزاوي - محاضرة ومستشارة في مجالي التنمية المستدامة والجندر، حاصلة على اللقب الأول في علم الأحياء واللقب الثاني في أدارة موارد بيئية وطبيعية.

هناك تعليقان (2):