"حقي على جسدي" هو من الشعارات التي رفعتها وترفعها نسويات في أجزاء مختلفة من العالم على أختلاف حضاراتهن ثقافاتهن وقضاياهن. فترفعنه النساء في مناهضة ختان البنات، وفي المطالبة بتشريع الحق في الأجهاض، في مناهضة عمليات الأغتصاب خلال الحرب وفي مواجهة تطبيب الجسد وتشيئه من خلال الأنظمة الصحية المختلفة، في مناهضة القتل على خلفية الشرف وفي الأحتجاج على شرطنة الجسد وتقييد الممارسات الجسدية، ترفعه من تناصر قتل الرحمة ومن تعارض قولبة الجمال من تطالب بحق أختيار المهنة ومن تحاول التحرر من أستبداد رأس المال.
الشق الأخر لهذة الشعارات هو "جسدي ملك لي" أو "جسدي ليس بملك عام"، وكأن الحق والملكية هما امران متوافقان، وبالرغم من بديهية الأمر أو ربما كانت بديهيته هي التي أستوقفتني مستنبطة التساؤل هل هو فعلاً كذلك؟ هل جسدي هو فعلاً ملكاً لي؟ وأن كان كذلك فما هو مفهوم هذة الملكية؟
الملكية عامة، على جسدي على الأرض على كل ما أمتلك من أدوات عصرية أو غيرها تنبثق عن علاقات قوة بيني وبين الأخرين او بيني وبين ما أمتلك. شعار "ملكيتي على جسدي" جاء لينقض ملكية الأخرين عليه، وفي حالة النساء تتعدد الملكيات فتكون ملكية العائلة والزوج والمجتمع والدولة، كلهم ينمط ويأطر ويحدد ما لهذا الجسد وما عليه. والملكية بطبيعتها مل هي الا أنبثاق لعلاقات قوة بين المالك والمملوك، حيث يستطيع الأول أن يفرض سيطرته وأرادته على الثاني اولاً ويخرق منالية الاخرين له ثانياً، وان كان جزم ملكية الأخرين على جسدي هو أمر بديهي غير ان ملكيتي على جسدي ليست بديهية ابداً وعلاقات القوة بيني وبين هذا الجسد وما أفرض عليه من أهواء هي موضع للمسألة والبحث.
التيارات النسوية تختلف فيما بينها بتوجهاتها وبأفكارها بشكل جذري، فمنها من أثنى على المساواة المحافظة أي المساواة في أطار السياق الموجود ومنها من أراد المساواة مع الأصلاح، ومنها الراديكالية الجذرية التي أثنت على المساواة بالحرية بدون تمييز جنسي أو جندري أو عرقي أو عمري أو طبقي ونفت أمكانية الأصلاح في مبنى تعتمد أسسه على علاقات قوة غير متوازية. بالأضافة الى هذة التيارات هناك الدينية والقومية والماركسية وغيرها من تيارات يشتد ويحتدم النقاش بينها.
سأحاول هنا مسآءلة العلاقة مع الجسد من منظور نسوي، هل نمتلكه فعلا ام أن له من اهواء ما لا سيطرة لنا عليها؟ وأن امتلكناه فما هي هذة الملكية وما هي معانيها المفترضة؟ وكيف تظهر علاقات القوة في عملية التملك هذة وما هو الحد الفاصل بين الشرعي منها وبين المنفي والمحرم؟ وما هي أسقاطات هذة المفاهيم على الجسد العام؟
اولاً أود زعزعة المفهوم الصلب لملكية الجسد وأن اردنا غير ذلك الا أن له من أهواء ما لا سيطرة لنا عليها. فهو يمرض ويتعب ويهرم ويفاجئنا في أوجاع لم نتوقعها وغالبا لم نستعد لها، كثيراٌ منا قد يشعر يوما بخيانة الجسد حيث نود الوقوف بينما يكون مقعد، ونود النظر فيكون ضرير ونود السمع فيكون أصم، ومنا من اراد الحديث فداهمه البكم، ومن اراد الحياة فباغته الموت، ومن آمن بكونه أنثى فأذ بالجسد يفرض ذكوريته، ومن اراد الأنجاب واذ به عاقر ومن اراد الشباب واذ به هرم أو الصحة فدب به المرض. فأن شأنا او أبينا للجسد حياة خاصة به أما نحن فنحاول بأسين السيطرة عليه فنقومه ونصححه ونصلحه ونجمله ونفرض عليه اراداتنا واهوائنا أحياناً وأرادات وأهواء الاخرين أحياناً أخرى. وبنشوة الحرية نخرج مع الشعار التحرري "جسدي ملك لي" منتصرين عليه قامعين له، فأن شاء أن يكون أفطس الأنف ولم نرغب بذلك فنعدله، وان شاء أن يكون أبيضاً فنسمره أو أسمراً فنبيضه، ونجمله ونزينه أحيانا كأهوائنا وبحسب رغباتنا وأحياناً أخرى كأهواء الناظرين ورغباتهم. وحيث اننا لن نستطيع ابداً التيقن متى تكون اختياراتنا حرة نقية ومتى تكون واهمة ولا يبقى لنا غير التسليم بالأمر الواقع وهو أن تملكنا لهذا الجسد هو تملك مؤقت تحكمه علاقات قوة فأحيانا نكون الأقوى فنقهره ونجمله ونطوره واحياناً يكون الأقوى فيقهرنا ويقمعنا يمرضنا ويلزمنا الفراش أو يأخذنا الى القبر رغماً عنا.
ملكيتي لجسدي هي كملكية السيد لجسد العبد، يتحول من خلالها الجسد الى شيئ لا قيمة له غير بمقدرته على تلبية حاجات السيد الآنية حيث لا يمكنه ان يقر مصيره فمن السيد والى السيد عائدون. وعملية تحرر العبد ما هي الا عملية تجسد السيد والعبد بجسد واحد فتقودنا الى نشوة النرجسية فنآله الجسد ونسجد له، ننتجه ونتفاخر به، وبينما نهابه قد تلتبس علينا الأمور فتتحول النرجسية الى عبودية والتجميل الى تشويه، والخيار الى فريضة والممكن الى محتم والبناء الى أستهلاك وهلاك.
ملكيتي على جسدي كملكية الأخرين عليه تحتم شيئيته. في حضارة عصر تتحول فيه الأشياء الى أحادية الأستعمال (disposable)، يتحول الجسد الى جسد آني (disposable body) تحكمه ثقافة أستهلاك أعتباطية فانا السيد أهبه الى هذا والى ذاك اليوم وغدا وبعد الغد، الى من يجمله ويعتني به الى من يحرص عليه ويرعاه يهذبه ويقومه بينما خط رفيع فاصل بين التقويم والحراثة، بين التأليه والتشييئ وبين الحق على الجسد وبين تملكه!!
وكما الجسد الخاص كذلك العام نحاول بائسين تملكه وأستهلاكه كما تملكنا وأستهلكنا ما علينا من أجساد فنسقط عنه ثوب الجلالة وننزله عن عرشه ونحوله الى أشياء ومستهلكات أحادية، فآلهة الشمس باتت طاقة شمسية، وآلهة النهر مولدات كهربائية وقنوات ري وصرف مياه صحية، آلهة الأرض مستعمرات ومكبات نفايات وآلهة السماء فضائيات ومسارات طياران. اما هذا الجسد فله حياة خاصة به، بها ما لا نريد من زلازل وأعاصير وفياضانات، نريدها هادئة فتثور ونهواها ثابتة فتتقلب نودها باردة فتحتر ومثمرة فتجف وتيبس، ونودها خصبة فتبور، ونحاول بأسين السيطرة عليها، فنقومه ونصححه ونصلحه ونجمله ونفرض عليه اراداتنا واهوائنا وبهبة من السيد نعلن ملكيتنا عليه منتصرين قامعين له، فأن شاء أن يكون وعراً نسهله أو أصفر فنخضره، وان اراد أن يكون جبلاً فنكسره وان بحرا فنجزره وأن كانت مياهه حلوة نملحها وان كانت مالحة فنحليها، وأن تحجر نستخرجه ونحرقه وان كان حياً فنتخمه ونسمنه لنأكله غير ابهين بأهوائه أو رغباته فما هو الا شيء في عصر تستهلك به الأشياء.
نعلن ملكيتنا على الجسد كما أعلن المستعمر والفاتح ملكيته على مساكن الأصلانيين، ففقدت الأرض بقوة الأستبداد والمستندات، ومن عاش بها ومنها فقدها لمن سيعيش عليها ورغماً عنها حيث يعمرها ويستعمرها، وكما تسابقت خيول المهاجرين البيض لتحتل الأرض وتثبت ملكيتها عليها تتسابق خيول العرب على أناثها فتبعلها بعرف الملكية. وعبثاً نحاول التيقن من حقيقة الأختيار الحر للشيئية العبثية واهمين بحرية في عصر تسود فيه عبثية الأشياء، في عصر يستبد به السيد بجسد العبد والعبدة فلا يعرف ايُن منهم أين ينتهي الأول واين يبدأ الأخر.
ها نحن أحرار في عصر التملك والأستهلاك الأحادي، عصر تقاس به الحرية بسرعة وبوتيرة الأستهلاك عصر الأواني البلاستيكية وعصر فوضى المعلومات، عصر النفايات وعصر السرعة، عصر تستهلك فيه الأشياء وتشيء به الأجساد فتستهلك كسلع أحادية سريعة العطب، فتخلف نفايات بلاستيكية وأشلاء بشر كالنفايات. واما ما تبقى لنا من علاقة مع الجسد ما هو الا علاقة سلطوية قامعة تحت عنوان الملكية. فما الفاصل بين التجميل والتشويه وبين المتعة والبطر وبين الشهوة والشبق؟ وأذا شمل تجميل الجسد أعمال فنية ورسومات حبرية فلماذا لا يشمل سكين الجراح؟ ومن الأسئلة التي تفقد بديهيتها ماذا مع الأتجار بالأجساد وبالأعضاء؟ وعن الأتجار بالنساء والأطفال والعمال؟ وماذا عن تجميل أو تشويه الجسد الأجتماعي فنقومه ونصححه ونستأصال منه كل شاذ!!
© حقوق النشر محفوظة
نسرين مزاوي – ناشطة نسوية، محاضرة ومستشارة في مجالي التنمية المستدامة والجندر.