اولاد اليمن


"لا يُعقل انه هنا في دولة اليهود هذا ما يصنعه يهود ليهود"، بهذة الجملة افتتحت السيدة نعمة كاتي عن مؤسسة عمرام الأمسية التي عقدت في حيفا بالأمس لذكرى "اولاد اليمن". ولغة المضارع التي تتحدث بها السيدة كاتي ليست صدفة فالتعتيم على الموضوع، تسكير الأفواه واغلاق سجلات الدولة امام كل من يحاول تقصي الحقائق والبحث في الموضوع ما زال مستمر الى اليوم.

"اولاد اليمن"، هذا هو الاسم الذي يطلق في اسرائيل على قضية خطف الاطفال من العائلات اليهودية اليمنية، التي هاجرت الى البلاد في سنوات الخمسين، لتتم تنشئتهم في عائلات يهودية من اصول اوروبية. الأمر لا يقتصر على العائلات اليمنية فقط، لكن هناك من يدعي انه لا توجد هناك عائلة يمنية واحدة لم يخطف منها اطفال، بعضهم خطف منهم اكثر من طفل واحد، اما حالات خطف الاطفال من عائلات من اصول أخرى فقد كانت قليلة نسبيًا وحدثت باشكال وباماكن متفرقة. 


بيوت الاطفال التي جمع فيها الاطفال للرعاية وكانت احدى محطات اختفاء الاطفال

قضية "اولاد اليمن" في اسرائيل والتي فُضحت في سنوات التسعين، هي قضية مشابهة لعدة قضايا في العالم في دول قومية سعت الى التحسين العرقي. فهناك على سبيل المثال قضية خطف اطفال السكان الاصليون في كل من كندا والولايات المتحدة الامريكية واستراليا وارسالهم الى مؤسسات تربوية ودمجهم عن طريق التبني والزواج من عائلات اوروبية. في هذة القضايا لعبت الكنيسة الكاثوليكية كما ومؤسسات تبشيرية اخرى دور لا يستهان به حيث كانت هي المفوضة والمسؤولة عن المؤسسات التي استقبلت هؤلاء الأطفال وعملت على "تهذيبهم". كذلك الأمر مع اطفال الأرمن في الدولة العثمانية حيث تم نقلهم الى عائلات مسلمة، وفي اسبانيا الدكتاتورية في فترة حكم فرانكو حيث تم التنكيل بالنساء من المجموعات المعارضة وخطفت اطفالهم. بالاضافة الى قضية مشابهة في روسيا في فترة ستالين تعرف باسم "ابناء الجليد"، واخرى في رواندا، وكذلك في كوبا في السنوات 1960-1962 حيث خطفت الولايات المتحدة الامريكية الاطفال من العائلات الكوبية بشكل ممنهج بهدف كسر شوكة كاستروا وضرب المجتمع الكوبي.

ما يميز كافة هذة القضايا هو انها ظاهرة مرافقة لنشوء الدول القومية، وعملية خطف الاطفال تمت في مجموعات ثقافية بوجودها هددت الهوية الثقافية للدولة. واليوم تعتبر هذة القضايا كجزء من عملية ابادة ثقافية لمجموعات ثقافية "غير مرغوب بها".

الابادة الثقافية ليهود اليمن في الدولة الصهيونية، "دولة اليهود"، في سنوات الخمسين لم تقتصر على خطف الاطفال فقط انما رافقتها عمليات احتيال وسرقة للمتلكات الخاصة من كتب تاريخية ومخطوطات يدوية حفظتها الجالية اليهودية لأكثر من الفي عام، تم الاستيلاء عليها من قبل مؤسسات الدولة وتم ايداعها في مخازنها بينما اُشيع خبر احتراقها كحادث مأساوي في الباخرة التي نقلتها. بالإضافة الى هذا تم الاستيلاء على حلي ذهبية ومجوهرات كبيرة الحجم ومزخرفة اشتهر بها يهود اليمن ويعود تاريخها ايضًا الى مئات السنين او اكثر، وقد قيل لهم على متن الطائرة التي اقلتهم للبلاد انه لا يجدر بهم اصطحاب الذهب الى "ارض الميعاد"، فهو اشبه بعجل الذهب الذي عبده اليهود التأهون في صحراء سيناء ويجب التخلي عنه، والمرأة التي لم تتنازل عن حليها بإرادتها تم اخذها منها بالقوة.  

الجملة التي أفتتحت أمسية الامس "لا يمكن ان نصدق انه هنا في دولة اليهود، يهود يصنعوا هذا ليهود"، بصيغة المضارع لا تعبر الا عن حالة إنكار عميقة. إنكار للواقع، فإما ان اليهود ليسوا يهودا او ان الدولة ليست "دولة اليهود" كما تصورها الصهيونية، وكل الخياريين لا يستطيع غالبية من جلس في القاعة بالامس التعايش معه.  

وبينما اتماهى مع جملة "كل ما اريده هو ان تعود اختي للبيت" الذي يطلقها احدهم بعفوية من بين الجمهور، لا يمكنني تجاهل العلاقة المركبة بيني انا، ابنة عائلة فلسطينية ناجية من تطهير عرقي مستمر يتم من قبل نفس المؤسسة، الدولة الصهيونية، وكل ما اريده هو ان ارى اللاجئين الفلسطينيين عائدون الى بيوتهم بين ذويهم، وبين مجموعة ثقافية عرقية احضرتها هذة المؤسسة الى البلاد كجزء من عملية التطهير العرقي هذة بينما تقوم في ذات الوقت بالأنقضاض عليها بهدف إبادة ثقافتها ومحي هويتها لتتطابق مع النموذج الاوروبي للدولة ومع هويتها الاوروبية. والعلاقة التي تربط الفلسطينيين مع يهود اليمن هي علاقة معقدة لا بد لنا من التعامل معها بعمق كي نفهم مدى التحديات والإشكاليات التي تقف امامها. فبالرغم من ان الفلسطينيين كما يهود اليمن هم ضحايا لذات الفكر والنهج الصهيوني، الا ان امكانية التضامن ما بين الفئتين هو امر شبه مستحيل. فيهود اليمن بغالبيتهم اليوم هم من انصار اليمين الاسرائيلي، حيث ان عملية الابادة الثقافية تمت في حينه على يد المباي، اي اليسار الاسرائيلي الذي تحول فيما بعد الى حزب العمل. من هنا فإن التنافر القسري بين يهود اليمن وبين اليسار الاسرائيلي والذي ينبثق عنه بشكل تلقائي تنافر مع العرب الفلسطينيين هو امر حتمي لا مفر منه.

وليس هذا لاي سبب خاص بالفلسطينيين او بعلاقة ما مباشرة بين الفلسطينيين ويهود اليمن بل لمجرد انه: ان تكون يمينيا في اسرائيل معناه ان تعادي العرب وأن تعادي الثقافة العربية وكل ما يأتي منها وأن تزدريها وتحتقرها ليسهل عليك اقناع ذاتك باخلاقية احتلالهم فأنت الأنسان المتنور تحضر لهم "الحضارة" وتأخذهم من الظلمة الى النور. وللمفارقة هذا هو ذات السبب الذي ادى الى إبادة ثقافة يهود اليمن.  

لكن حديث السيدة كاتي في بداية الامسية بلغة المضارع يشير الى ان حكومات اليمين واليسار المتعاقبة في الدولة كلها تتابع التعتيم على الموضوع بدون اي اختلاف بينهم. اي ان اليسار واليمين متورطون معًا في هذة الجرائم وفي التستر عليها، وهم يسيرون في ذات الطريق بدون اختلافات جذرية بينهم. وهذا ما لا يستطيع يهود اليمن في البلاد استيعابه او تقبله او التعايش معه. فاليسار الصهيوني في اسرائيل في نظرهم هو هو يسار فاشي، لكن اليمين الصهيوني ايضا هو صورة طبق الاصل عنه بتعديلات خفيفة ليست جوهرية. وموقف اليمين الصهيوني ليست افضل حيال العرب ولن تكون افضل حيال يهود اليمن كمجموعة ثقافية. فالدولة الصهيونية وإن شائت ان توهمنا انها "دولة اليهود" الا انها ليست كذلك، والا كيف نفسر ان تقوم "دولة اليهود" بإبادة ثقافية ليهود اليمن وبدحر ثقافة يهودية حُفظت لأكثر من الفي عام واندثرت على يد الصهاينة؟!


---------------


وما اشبه الصهيونية بداعش، حركة ظلامية بحتة، تعمل على الابادة الثقافية للبلاد ولسكانها ولتاريخها بدون اي فرق بين يهودي، مسيحي، مسلم سني او شيعي، يزيدي، آشوري او اخر.

وقد يتسائل البعض لماذا اكتب عن يهود اليمن ضحايا الصهيونية وهم موالين لها؟
وعلى هذا اجيب: لانه مسار التحرر يجب ان يكون مسار كامل، والتهاون في حرية فئة معينة يجر تهاون في حريات الفئات الاخرى ويُسّهل على المؤسسة المراوغة والسيطرة. وهكذا ينتج وضع فيه يهود اليمن بغالبيتهم مواليين لاحزاب اليمين اللتي تكره الثقافة العربية وتزدريها بشكل معلن، بينما هم بذاتهم يهود عرب وثقافتهم اللتي اُبيدت هي ثقافة عربية.

والحرية لا تُنجز إلا بالتضامن بين كافة الفئات المقموعة، وإلا فإن فئة معينة ستستعمل كحربة لمحاربة فئة أخرى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق