رهاب المثلية السياسي وصعود الشعبوية اليمينية - قراءة في المشهد السياسي عشية انتخابات البرلمان الإسرائيلي 2021

خلفية

عشية انتخابات البرلمان الإسرائيلي الرابع والعشرون، التي عقدت في الثالث والعشرين من آذار 2021، أثارت قضية "حقوق المثليين" إشكالا كبير بين الأحزاب العربية في إسرائيل، وبدون أي مبالغة يمكن القول انها كان القضية بال التعريف الأكثر اهتماما وجدلا مقارنة بأي قضية أخرى. تم التطرق لهذا الموضوع بشكل بارز على أجندة البرلمانيين العرب في الكنيست بدءًا من تموز 2020، وهو قبل موعد الانتخابات بحوالي ثمانية أشهر وقبل الإعلان عن حل البرلمان بخمسة أشهر. ومن حدة النقاش والجدل بين البرلمانيين العرب حول الموضوع، يمكن للمرء أن يتخيل أن هذا الموضوع هو الأكثر سخونة حاليا وأن للنواب العرب في البرلمان الإسرائيلي فصل المقال في الموضوع. فهؤلاء الذين عجزوا عن التصدي لقوانين عنصرية خطيرة مثل "قانون قومية الدولة"[1] و"قانون المواطنة"[2] وغيرها من القوانين الخطيرة والمجحفة التي تهدد الوجود الفلسطيني في إسرائيل،[3] هم بذاتهم من سينجحون في التصدي لحقوق المثليين في إسرائيل "عاصمة المثليين في الشرق الأوسط"، كما تروج هي لذاتها.[4]

وإذا كانت السذاجة السياسية حول هذا الموضوع تبدو واضحة لهذا الحد، فينبغي علينا أن نتساءل عن كيفية تحول قضية المثلية الجنسية إلى أحد أهم القضايا في الحملة الانتخابية للأحزاب العربية في البرلمان الإسرائيلي، ولماذا هذا الموضوع تحديدا ولماذا الان؟ لماذا تصور هؤلاء الجمهور العربي في إسرائيل كفريسة سهلة المنال وماذا يمكننا أن نتعلم من هذه التجربة؟


المثلية في السياق السياسي في إسرائيل

على الرغم من انتشار كراهية المثلية والمثليين في المجتمع الإسرائيلي (عادة يُشار الى هذا بـ "رهاب المثلية")، إلا أن الوضع القانوني للمثليين في إسرائيل يعتبر مُنفتحًا نسبيًا. في عام 1988، تم إلغاء تجريم المثلية في إسرائيل، ومنذ ذلك الحين، حقق المجتمع المثلي في إسرائيل العديد من الانجازات الحقوقية الليبرالية. تشمل هذه الإنجازات الاعتراف بالاتفاقيات القانونية للشراكة الزوجية للأزواج المثليين والاعتراف بالزواج المثلي الذي يُعقد في الخارج، ويشمل هذا الاعتراف ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأزواج، فضلاً عن حقوق التبني والوالدية والعديد من القوانين الأخرى التي تضمن حرية التعبير، والمساواة أمام القانون وحقوق الرعاية الصحية والاجتماعية، والمساواة في فرص العمل والخدمة العسكرية وغيرها.

وتستغل المؤسسات الإسرائيلية الحالة الليبرالية للمثليين في إسرائيل للترويج الدولي لها سياسيًا سياحيًا واخلاقيًا، وتُخصص إسرائيل سنويًا مبالغ مالية بعشرات الملايين لتعزيز السياحة المثلية فيها. بالإضافة إلى الاستثمارات الدولية والاقتصادية في هذا القطاع، هناك أيضًا استثمار سياسي في هذا السياق على الصعيدين المحلي والدولي، وقد ظهر ذلك بشكل واضح خلال السنوات 2019-2020.[5]

منذ الثمانينيات ارتبطت الليبرالية تجاه المثلية في إسرائيل بشكل واضح مع التوجهات اليسارية، ولفترة طويلة، اعتُبِرَ حزب اليسار الصهيوني "ميرتس" الرائد في الدفاع عن حقوق المثليين في البرلمان الإسرائيلي. مع صعود أحزاب المركز الصهيوني في الأعوام 2012-2019، صعدت المثلية القومية الصهيونية، ونشطت اللجان الحزبية المثلية في جميع الأحزاب الصهيونية العلمانية وشهدت السنوات 2019-2020 قفزة نوعية في هذا الصدد. في السنوات السابقة كان التمثيل البرلماني للمثليين يقتصر عادة على ممثل واحد أو اثنين، وقد ارتفع في السنوات 2019-2020 إلى ستة أعضاء، ممثلين الطيف الكامل للأحزاب الصهيونية العلمانية، بدءًا من حزب "ميرتس" ومرورًا بحزب "العمل" وأحزاب المركز مثل "يش-عتيد" و"كحول-لابن" حتى حزب "الليكود". وكانت حكومة نتانياهو في العام 2019 أول حكومة تعين وزيرًا مثليًا، وهو أمير اوحانا من حزب "الليكود"، وتم تعيينه وزيرًا للقضاء. وفي العام 2020، ضمت حكومة نتانياهو وزيرين مثليين، وهما أمير اوحانا والذي تم تعيينه وزيرًا للأمن الداخلي، وايتسيك شمولي من حزب "العمل" والذي تم تعيينه وزيرًا للرفاه الاجتماعي.[6]

بناءً على هذا، من الواضح أن المصالح الاقتصادية والسياسية الدولية والمحلية-القومية-الصهيونية تشكلت حول مسألة المثلية في إسرائيل التي أصبحت محسومة داخل الأحزاب الصهيونية العلمانية وليس هناك خلاف يذكر بشأنها. وقد حقق المثليين في إسرائيل الكثير من الإنجازات، وفي صفوف الأحزاب العلمانية تعتبر هذه الإنجازات بمثابة إنجازات وطنية تمثل الدعم للمجتمع المثلي على كافة المستويات محليًا ودوليًا.

فإذا كانت المسألة المثلية في إسرائيل مسألة محسومة داخل الإجماع الصهيوني، فما هي الأسباب التي أدت الى تحول الموضوع المثلي إلى خلاف أساسي وجوهري أدى الى انشقاق داخل كتلة الأحزاب العربية "القائمة المشتركة" وكيف تم ذلك؟

 

قراءة سياسية في "القائمة المشتركة"

شكل البرلمانيين عن "القائمة المشتركة" في البرلمان الإسرائيلي الثالث والعشرين مجموعًا خمسة عشر ممثلًا من بين مجموع أعضاء الكنيست البالغ عددهم مئة وعشرون.[7] بناءً على هذا، كانت "القائمة المشتركة" تحتل المركز الثالث من بين الكتل نسبة لعدد الممثلين، وكانت بمثابة كتلة مانعة. وقد تزايدت قوة الكتلة على خلفية التأرجح السياسي لحكومات نتانياهو المتعاقبة. فهذه هي الجولة الانتخابية الرابعة خلال سنتين، وحتى إن بقيت هذه الكتلة خارج الاجماع الصهيوني، حيث يقوض المجتمع الإسرائيلي شرعية القرارات التي تًتخذ بالاعتماد على أصوات غير صهيونية، الا انها اضعفت حكومات نتانياهو اليمينية بمجرد وجودها وحصولها على هذا الكم من المقاعد البرلمانية.

تشكلت "القائمة المشتركة" لأول مرة في عام 2015، وهي تمثل ائتلافًا لأربعة أحزاب عربية برلمانية وهي: الحزب الشيوعي الاسرائيلي، حزب التجمع الوطني الديمقراطي، القائمة العربية الموحدة، والحركة العربية للتغيير.[8] القاسم السياسي المشترك الوحيد بين هذه الأحزاب هو كونها أحزابًا عربية وكانت قد استُهدِفت جميعها كأحزاب منفصلة من خلال تعديل قانون الانتخابات للعام 2014، والذي جاء ردًا على تزايد القوى اليمينية في البرلمان وكان الهدف منه تحييد الأقليات والأحزاب الصغيرة عن العمل السياسي البرلماني. من خلال تعديل قانون الانتخابات، تم رفع نسبة الحسم كشرط أدنى لدخول الكتلة الى البرلمان الى 3.25%، وهذا شكل عائق أساسي امام الأحزاب العربية وما كان لها إلا أن تأتلف لتتجاوز هذا العائق. هكذا اجتمع اقصى اليمين السياسي العربي مع اقصى يساره في "القائمة المشتركة" وأجمعت كافة مركباتها على الترفع عن الخصومات بينها من أجل التغلب على العائق الرئيسي في عرقلة دخولها البرلمان.

في انتخابات عام 2015، حصلت "القائمة المشتركة" على 13 مقعدًا. وفي انتخابات نيسان 2019، انقسمت "القائمة المشتركة" الى قائمتين مختلفتين، وحصلت القائمتين مجتمعتين على عشرة مقاعد فقط.[9] ثم، في انتخابات كانون اول 2019، عادت الأحزاب العربية وتوحدت في قائمة واحدة وحققوا 13 مقعدًا. وبعد ذلك، في آذار 2020، زادت حصيلة المقاعد الى 15 مقعدًا. ويًعد هذا الإنجاز الأكبر للقائمة المشتركة التي عادت وانقسمت إلى قائمتين في الانتخابات الأخيرة وحققت القائمتين مجتمعتين عشرة مقاعد فقط.


تأرجح حكومات نتانياهو وعدم ثبات سياسي

تميزت الفترة من نيسان 2019 حتى آذار 2021 بعدم استقرار سياسي وتأرجح لحكومات نتانياهو المتعاقبة. وخلال سنتين، فشل نتانياهو في تشكيل حكومة مستقرة ثلاث مرات متتالية. وانتخابات الكنيست التي جرت في آذار 2021 كانت في الواقع الجولة الانتخابية الرابعة خلال عامين. بشكل عام، استندت استراتيجية نتانياهو السياسية إلى نجاح كتلة الأحزاب المؤيدة له في اليمين، وليس فقط على نجاح حزب "الليكود". ونجح نتانياهوا بهذه الاستراتيجية في انتخابات عام 2009 بتشكيل حكومة على الرغم من عدم حصوله على أغلبية الأصوات، وتكرر نجاحه في ذلك في العام 2019. إلا أن المقاعد الـ 15 للقائمة المشتركة أصبحت عقبة حقيقية أمام كتلة الأحزاب اليمينية بشكل عام وليس فقط أمام نتانياهو.

وبعد أن نجح نتانياهو في تفكيك تحالفات من حاولوا مواجهته في الماضي، لم يبقى امامه سوى تفكيك تحالف القائمة المشتركة. ولم تكن هذه مهمة صعبة، حيث أن القائمة المشتركة تضم أحزابًا عربية من اليمين العربي ومن اليسار العربي، والقاسم المشترك الوحيد الذي يجمعها هو أنها أحزاب عربية في "إسرائيل". وعلى الرغم من أن هذه الميزة ليست بسيطة، إلا أنها فقدت تدريجيًا أهميتها بسبب تراجع القضية الفلسطينية وابعادها عن الأجندات الإقليمية والدولية منذ بداية الثورات العربية حتى اليوم، إضافة الى تزايد عمليات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل التي وصلت اوجها عام 2020، وتسارعت مع اقتراب نهاية فترة رئاسة دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وتصاعد اليمين العالمي عامة فيما انخفضت تدريجيًا قوى اليسار العالمي منذ منتصف التسعينيات وحتى الوقت الحالي.[10]


استِمالة منصور عباس من قبل نتانياهو وإعادة تفكيك القائمة المشتركة  

يعتقد البعض أن خروج القائمة العربية الموحدة بقيادة منصور عباس عن اجماع القائمة المشتركة تم بعد التصويت على تعديل قانون الاخصائيين النفسيين في 22 تموز، والذي يعرف بـ "قانون منع العلاج القسري للمثليين". هذا ما تم ترويجه إعلاميًا، وهو ما زج بالمسألة المثلية في الصراع السياسي حول انشقاق المشتركة. في الواقع، إذا نظرنا بعناية إلى كافة عمليات التصويت التي جرت خلال العام الأخير، سنجد أن منصور عباس قد خرج إلى طريقه المستقل المتحالف مع نتانياهو في وقت سابق من ذلك.

ففي الأول من حزيران 2020، كان نتانياهو في قمة أزمته السياسية. على الرغم من نجاحه بشكل ما في تشكيل حكومة مع غانتس، إلا أن هذه الحكومة كانت تتأرجح مثل الحكومات السابقة، بل ربما أكثر، حيث زادت جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية التي رافقتها، بالإضافة إلى الخلافات السياسية حول إدارة الأزمة، من الضغوطات السياسية المتعرض لها نتانياهو نتيجة لعمليات التحقيق الجنائية والمحاكمة القضائية بسبب اتهاماته بالفساد الرشوة. في ظل هذه الظروف، قام نتانياهو بتبني اقتراح أحد معاونيه بتعديل قانون أساسي في الكنيست، والذي أصبح معرفًا بـ "القانون النرويجي"، ويسمح هذا التعديل لأعضاء الكنيست الذين تم تعيينهم كوزراء بالاستقالة من الكنيست، مما يتيح دخول اعضاء جُدد بدلاً عن الوزراء المستقيلين، مع ضمان عودة الوزير الى عمله البرلماني في حال استقال من عمله كوزير.

في الواقع وببساطة، يوسع هذا القانون من رقعة المفاوضات السياسية المتاحة امام نتانياهو ويمكنه من عقد صفقات سياسية ما كانت لتتم بدون هذا القانون. وبما أن هذا الاقتراح ليس جديدًا في البرلمان الإسرائيلي وسبق أن تمت مناقشته في الماضي عدة مرات وأثار جدلاً واسعًا في اليمين واليسار، احتاج نتانياهو إلى الوقت كي يقنع عدد كافي من أعضاء البرلمان بدعم هذا التعديل، وأهم ما افتقده نتانياهو في أوج أزمته السياسية هو الوقت. وبالرغم من الخلاف التاريخي حول القانون، باشر نتانياهو في عملية التصويت على التعديل، على الرغم من عدم تجميعه للعدد الكافي من المؤيدين. وعند فرز أصوات المقترعين في القراءة الأولى في الأول من حزيران 2020، تبين أن التعديل قد مر بغالبية ضئيلة بنسبة 61 مقابل 59 صوت انسحبوا جميعًا من الجلسة كخطوة احتجاجية. وقد نجح نتانياهوا بتمرير هذا القانون في القراءة الأولى بفضل صوت واحد فقط وقد كان هذا هو صوت منصور عباس رئيس القائمة العربية الموحدة الذي شارك في الجلسة وصوت لصالح القانون.

هكذا في الأول من حزيران 2020، قبل مضي ما يزيد عن شهر ونصف تقريباً قبل التصويت على تعديل قانون "الاخصائيين النفسيين"، الذي صور لاحقًا أنه كان السبب في انشقاق القائمة العربية الموحدة عن القائمة المشتركة، وقف منصور عباس إلى جانب نتانياهو وقدم له الدعم اللازم والمساحة اللازمة للمناورة السياسية التي كان يحتاجها. ومن دون هذا الدعم ما كان نتانياهو سينجح في متابعة مناوراته السياسية.[11]

في التصويت على القراءة الثانية والقراءة الثالثة للقانون في الـ 15 من حزيران، تمكن نتانياهو من جمع 6-7 أصوات إضافية لصالح القانون، مما أتاح لمنصور عباس مساحة للمراوغة السياسية والتصويت ضد القانون، ليُسجل انه صوّت ضد القانون. الوحيد الذي صوت مع القانون النرويجي في القراءة الأولى وصوت ضد القانون في القراءة الثانية والثالثة هو منصور عباس.[12]


رهاب المثلية السياسي ورهاب المثلية الاجتماعي

ما يميز المثليين الفلسطينيين في إسرائيل عن المثليين العرب في الدول العربية هو تنحي مؤسسات الدولة عن عملية القمع على خلفية الهوية الجنسية. وقد أظهرت تجربة المثليّين الفلسطينيّين في إسرائيل، وهي تجربة مثليّة عربيّة فريدة من نوعها، أنه عندما يتوفر شرط غياب اضطهاد الدولة، فإن المجتمع الفلسطيني كمجتمع عربي، قادر على استيعاب أبنائه وبناته المثليين والمثليات والعابرين والعابرات، ويمكنه قبول نمط حياتهم وتقبّل عائلاتهم. على الرغم من ذلك، لا يخلو الامر من وجود بعض الخطابات المعادية للمثليين من حين لآخر، ولكن عادةً ما تكون هذه الخطابات اجتماعية بعيدة عن الخطابات السياسية المتعلقة بسياسات الدولة وآلياتها. وفي حين يواجه المثلي العربي في الدول العربية رهاباً يجمع بين رهاب المثلية من النواحي السياسية والدينية والاجتماعية كما لو كانت مترتبة معاً، يواجه المثلي الفلسطيني في "إسرائيل" رهابًا دينيًا للمثلية ورهابًا اجتماعيًا، وحتى الآونة الأخيرة لم يرتبط أي منها بالرهاب السياسي للمثلية. ويرتبط صعود رهاب المثلية السياسي في أوساط القائمة العربية الموحدة والحركة العربية للتغيير بصعود اليمين الصهيوني المتطرف المعادي للمثلية، والمعادي للنساء، والمعادي للعلمانيين وللفلسطينيين. وينعكس هذا من خلال تطابق حرفي لا يمكننا تجاهله بين الخطاب السياسي العربي المعادي للمثليين مع الخطاب الموازي للرابي تسبي طاو المرشد الروحي لحزب نوعم الديني الصهيوني الأكثر تطرفًا في معادة الاخرين.[13]    

هنا من المهم التوضيح ان المثلي الفلسطيني لم يتحرر ولن يتحرر من خلال البرلمان الإسرائيلي. بالإضافة، من المهم ان نتذكر ان المجتمع الفلسطيني قادر، حيث يشاء، على فرض قوانينه الثقافية والاجتماعية حتى ان كانت اشد صرامة من القوانين الإسرائيلية الليبرالية، وان القوانين والاعراف الاجتماعية لم يُحافظ عليها بواسطة قوانين برلمانية ولا علاقة لهذه بالسياسات البرلمانية. فخلال عقدين من الزمن حقق الحراك الفلسطيني المثلي العديد من الإنجازات لم يعتمد أي منها على قوانين برلمانية، بل على حراك اجتماعي محلي محض مكتفي بمساحة الحقوق الأساسية العامة التي تضمنها الدولة لكافة المواطنين. بل وابعد من ذلك فان الحراك الفلسطيني المثلي هو حراك وطني وبغالبيته العظمى مناهض لإسرائيل ولعمليات الغسيل الوردي[14] ومقاطع للمؤسسة الإسرائيلية برمتها، وقد كان موقفه السياسي هذا قد وضع في السابق امامه عقبات كبيرة في تجاوز بعض الازمات الإنسانية التي عجز عن التدخل بها بسبب مواقفه السياسية المقاطعة والممتنعة عن العمل مع المؤسسة الإسرائيلية.[15]

من هنا فإن المفارقة كبيرة جدا بين الواقع السياسي للحراك المثلي الفلسطيني وبين الهجوم المفتوح الذي شنته القائمة العربية الموحدة والحركة العربية للتغيير خلال حملتهم الانتخابية البرلمانية ضد فئة اجتماعية ليس لها في البرلمان لا ناقة ولا جمل.
وفي حين تم تأجيج المشاعر المحافظة وتحشيد الجماهير حول كراهية المثليين، التزم النشطاء المثليين الصمت بشكل غير مبرر مقارنة مع النشاط الواسع للحراك المثلي الفلسطيني في الجدل السياسي على الساحة الدولية.


"تعديل قانون الاخصائيين النفسيين" وعملية زج المثليين الفلسطينيين في السياسات البرلمانية الإسرائيلية

في 22 تموز 2020، تم التصويت بالقراءة التمهيدية على تعديل لقانون "الاخصائيين النفسيين" الذي أصبح يُعرف بقانون "منع العلاج القسري للمثليين". في هذا اليوم، تفاجئ أعضاء "القائمة المشتركة" وكل من تابع عملهم البرلماني ببيان صحفي أصدرته "القائمة العربية الموحدة" مباشرة بعد انتهاء التصويت على التعديل القانوني. وقد اتسم البيان بتنديد بأعضاء "القائمة المشتركة" وبموقفهم المؤيد للتعديل. في ذلك الوقت، بدا الأمر كمهزلة سياسية حيث نُسِب إلى "القائمة المشتركة" عملا لم يكونوا قد قاموا به. فمن بين 15 ممثلًا برلمانيًا عن "القائمة المشتركة"، صوت ثلاثة مع التعديل القانوني، وصوت ثلاثة ضده، فيما تغيب تسعة أعضاء عن الجلسة.[16] وفي حين أبدى بعض الأفراد في الحراك المثلي استياءً شديدًا من موقف البرلمانيين العرب الذين تغيبوا عن الجلسة، فإن المجتمع العربي بأكمله تعرض لحالة من الدهشة والارتباك. وكانت هذه هي لحظة إعلان "القائمة العربية الموحدة" انشقاقها عن "القائمة المشتركة"، بحجة "الخوف والحرص على المجتمع العربي وعلى قيمه الدينية والثقافية والاجتماعية". في الحقيقة، كانت هذه اللحظة هي لحظة بداية الشعبوية اليمينية التي قادها رئيس "القائمة العربية الموحدة" منصور عباس.


قانون "منع العلاج القسري للمثليين" كحالة في سياق سياسي عام

لفهم السياق السياسي لقانون "منع العلاج القسري للمثليين"، كان لا بد من الخوض بكل ما جاء سابقًا، فعملية التصويت على هذا القانون في ذلك الوقت تحديدًا كانت جزء من الأزمة السياسية العارمة التي أحاطت بنتانياهو، وكانت المعارضة البرلمانية قد قدمت هذا التعديل القانوني للتصويت تحديدًا في هذا الوقت بهدف احراج نتانياهو. فحكومة نتانياهو-جانتس شملت وزيرين مثليين، هما أول وزراء مثليين في تاريخ إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، لأول مرة في تاريخ البرلمان الإسرائيلي هناك ستة أعضاء برلمانيين مثليين موزعين على كافة الأحزاب الصهيونية العلمانية، أربعة منهم كانوا جزءًا من الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي.[17]Top of Form إضافة الى عدد لا يستهان به من أعضاء حزب "الليكود" وحزب "كحول-لابن" وحزب "العمل" الداعمين للمثليين والمثلية الصهيونية بشكل خاص، وهؤلاء كانوا قد بنوا جزءًا من رصيدهم السياسي بناء على هذا، وعلى رأسهم نتانياهو.  

من هنا وبناء على القراءة لهذه الخارطة السياسية فما قام به نيتسان هوروبيتس رئيس حزب "ميرتس" المعارض كان بهدف احراج نتانياهو ولكز حكومته المتأرجحة، وبالفعل تم التصويت لصالح القانون بغالبية 43 صوت، مقابل 35 صوت، وتغيب عن التصويت 42. الم يكن باستطاعة نتانياهو حشد الـ 42 نائبًا المتغيبين عن التصويت ليصوتوا ضد القانون؟! لا بد أنه كان واضحًا لنتانياهو وللأخرين بأنها معركة خاسرة لهذا تغيب بذاته عن التصويت ولم يحاول تجميع المصوتين ضد القانون.[18]

من المهم أن نشير هنا إلى المفارقة السياسية في موقف "القائمة العربية الموحدة". فقد نددت بأعضاء القائمة المشتركة الذين تغيبوا عن التصويت وصورت موقفهم الممتنع بغالبيته كموقف داعم للقانون، ليتسنى لها الانشقاق والهجوم والتحريض عليهم، وذلك بينما لم تبالي بالسياسات التي اتخذها نتانياهو الذي تغيب بذاته عن التصويت.

وللحقيقة، إن عملية التصويت على "قانون منع العلاج القسري للمثليين" في ذلك الوقت وفي تلك الظروف تمثل لحظة محورية في السياسة الإسرائيلية تتطلب منا التوقف عليها لفهمها بعمق. ففي الوقت الذي تلاشت به الفروقات السياسية بين اليمين الصهيوني واليسار الصهيوني، ومالت الخارطة السياسية بشكل حاد نحو اليمين، وانحصرت الاجندات السياسية بمعارضة نتانياهو او بالدفاع عنه، وباتت المنافسة السياسية منافسة بين اليمين المعتدل واليمين المتطرف بينما اضمحلت السياسات اليسارية ووصلت حد التلاشي وتمحورت المعارضة بمعارضة الشخص وغاب الطرح السياسي البديل، برزت معادة المثلية ومعادة النساء والعلمانية كالعلامة الفارقة الوحيدة بين المعسكرات الصهيونية. وهذه اللحظة هي ذاتها لحظة تجلي المثلية الصهيونية كمثلية قومية بكامل حلتها الذكورية، وهذا أمر من المهم ملاحظته حيث أن العديد من القوانين التي يقدمها أو يدعمها المثليين-القوميين، مثل قانون "تأجير الأرحام" على سبيل المثال، تحمل طابعًا ذكوريًا وتقوم على قمع واستغلال النساء. وهناك تباين كبير في وجهات النظر في المجتمعات المثلية بشأن هذه القوانين، التي تنقسم ما بين مثلية-قومية-نيوليبرالية ومثلية-نسوية-تحررية، وعادة ما تتعارض هذه مع التيارات النسوية بشكل عام.  Top of Form

غياب الفكر السياسي اليساري وتراجع التيارات السياسية اليسارية مقابل هيمنة اليمين السياسي وانحصار التنافس السياسي على السلطة بين اليمين واليمين المتطرف هو ظاهرة عالمية إلى حد ما. وكما هو واضح في الساحة الإسرائيلية، حيث باتت العلمانية والتدين هما الفارق الوحيد بين اليمين واليسار، كذلك هو الأمر على الساحة العربية المحلية. فمع تحييد القضية الفلسطينية وتغيبها محليا وإقليميا، يميل العمل البرلماني العربي الى التمحور حول الخدمات والميزانيات، ويُختزل الفرق بين اليمين واليسار ليقتصر على الموقف من العلمانية ومن الحريات الشخصية، وبالتحديد تلك المتعلقة بالجنسانية.

في هذه الظروف، يتجه النهج السياسي للبرلمانيين العرب في الكنيست الإسرائيلي إلى التوافق مع النهج السياسي للأنظمة العربية التي تشهد تنافسًا بين الأحزاب الحاكمة والتيارات السياسية الإسلامية في سعيها لـ "الحفاظ على الدين والقيم الاجتماعية". وفي هذه الحالة، تُوَظّف مؤسسات الدولة وآلياتها في عملية استهداف الحريات الشخصية وبطبيعة الحال يكون المثليون أولى ضحاياها. وخلافا لرهاب المثلية الديني ورهاب المثلية الاجتماعية، فإن رهاب المثلية السياسي هو هذا الذي يعتمد على الدولة ويستخدم آلياتها لقمع الحريات. وعادة يرتبط هذا مع الشعبوية السياسية ومع افلاس الأنظمة السياسية وانهيارها ومع انتشار الفساد.

وترتبط الشعبوية عمومًا بصعود وتزايد الأزمات السياسية والاقتصادية والشعور بعدم الأمان الاجتماعي والاقتصادي، حيث تُشكل هذه الظروف بيئة خصبة لنمو التيارات الشعبوية، وترتبط هذه كنهج سياسي بأيديولوجيات متنوعة، ومن الممكن أن نجدها على امتداد الطيف السياسي من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، حيث تتميز الشعبوية بخطاب عاطفي ومنظور ثنائي يقسم المجتمع الى "أبطال" و"أشرار"، وإلى "أصدقاء" و"أعداء"، وتعتمد الشعبوية عامة على استفزز العواطف والغرائز مثل الخوف والرهبة من عوامل حقيقية او متخيلة، وعمومًا تستهدف الشعبوية القيادات والنخب السياسية والثقافية، تشجع على التعصب العرقي وتحرض على العنصرية وعلى كراهية فئات اجتماعية بأكملها، مثل الأقليات العرقية والدينية والإثنية، بالإضافة الى المهاجرين واللاجئين والأجانب بشكل عام وغيرهم.

وللنهاية، فإن رهاب وكراهية المثليين التي ظهرت في الحملة الانتخابية البرلمانية 2021 لم تأتي كرد فعل على ظهور الحراك المثلي الذي ينشط في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل منذ عقدين تقريبا، ولا على خلفية الغسيل الوردي لإسرائيل والترويج السياسي فيها للتسامح مع المثليين الذي تقوم من خلاله بتضليل الرأي العام والتعتيم على جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، انما جاءت كجزء من تحالف سياسي لتيارات اليمين الصهيوني مع تيارات اليمين العربي ضد العلمانية والليبرالية والحريات.[19]  



[1] قانون القومية، يُعرِف إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي (2018)، راجع: https://www.adalah.org/uploads/uploads/nation%20bill.pdf

[2] قانون يمنع لم شمل العائلات الفلسطينية، راجع:
https://www.adalah.org/ar/law/view/318 ،https://www.adalah.org/ar/tag/index/18

[3] حول عشرات القوانين العنصرية راجع:
https://www.adalah.org/ar/tag/index/133

[4] مع اشتداد حملة المقاطعة، حدث تحول في الدعاية الترويجية لإسرائيل وتحولت هذه الى الترويج لمدينة تل-ابيب. راجع:
 
Atshan Sa'ed, 2020, Queer Palestine and the Empire of Critique, Pp116-118.

[5]  للاستزادة حول موضوع الغسيل الوردي والاستثمار الإسرائيلي المالي والسياسي في موضوع المثلية يمكن الاطلاع على ما جاء بإسهاب مُفصل في كتاب عطشان 2020.

[6]  أعضاء مثليين في البرلمان الاسرائيلي: مارشا فريدمان من حركة "راتس" (1974-1977) وقد أعلنت مثليتها لاحقا لهذا يعتبر عوزي ابن من حزب "ميرتس" اول عضو كنيست مثلي (2002-2003). أمير اوحانا من حزب "الليكود" عضو كنيست (2015-2021) ووزير القضاء (2019-2020) ووزير الامن الداخلي (2020-2021)، ايتان جينزبورغ عضو كنيست من حزب "العمل" وكتلة "كحول لابن" (2019-2022) ووزير الاتصالات (2021)، نيتسان هوروبيتس من حزب "ميرتس" (2009-2015، 2019-2021)، يوراي هرتسينوا من كتلة "كحول لابن" وعن حزب "يش عتيد" (2019-2021)، عيدان رول من كتلة "كحول لابن" وحزب "يش عتيد" (2019-2021)، ايتستيك شمولي من حزب "العمل" ومن كتلة "المعسكر الصهيوني" (2013-2021).

[7] القائمة المشتركة تجمع كافة الأحزاب العربية وهي القائمة اللا-صهيونية الوحيدة في الكنيست. عدد الممثلين عن "القائمة المشتركة" في الدورة الأخيرة أربعة عشر ممثلًا عربيًا وممثلًا يهوديًا واحدًا.

[8] أربعة أحزاب من أصل ستة أحزاب عربية اثنين منها غير برلمانية وترفض المشاركة البرلمانية. "الحزب الشيوعي" حزب يهودي-عربي غالبية أصوات الحزب تأتي من المجتمع العربي. "حزب التجمع الوطني الديمقراطي" تأسس عام 1999 بقيادة عزمي بشارة. "القائمة العربية الموحدة" هي الشق الجنوبي للحركة الإسلامية، اما الشق الشمالي للحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح فإنه يرفض المشاركة في البرلمان. "الحركة العربية للتغيير" بقيادة المستشار السابق للرئيس ياسر عرفات السياسي المستقل الطبيب أحمد طيبي.  

[9]  الحزب الشيوعي والحركة العربية للتغيير في قائمة، الحركة الإسلامية وحزب التجمع الوطني الديمقراطي في قائمة أخرى.

[10] Khaizran and Khlaile. 2019. Left to its Fate: Arab Society in Israel Under the Shadow of the “Arab Spring”. The Moshe Dayan Center for Middle Eastern and African Studies (MDC). Tel-Aviv. (Hebrew).

[13] احمد طيبي، راديو الناس 23-02-2021. الراب طاو في مقابلة على חדשות מאקו 2021-03-24. بالإضافة يمكن معاينة فيديوهات على الشبكة أقدم بسنتين او ثلاثة للراب طاو يتطرق فيها أيضا الى عمل الجمعيات المثلية مع المدارس والطيبي في خطابه الموسع يقدم نفس الحجة ويردد ذات الرسائل المكررة بالكلمات ذاتها التي يقدمها الراب طاو حول رفض دخول الجمعيات المثلية للعمل مع الطلاب في المدارس.

[14]  أي الترويج لإسرائيل دوليا بسبب تسامحها وتقبلها للمثليين.

[15]  بناء على تجربة شخصية وعلى توجهات مباشرة للقوس للتدخل في ثلاث حالات إنسانية عجز القوس عن التدخل بها بسبب رفضه التنسيق مع جهات إسرائيلية.

[16] ثلاثة من أصل خمسة أعضاء عن الحزب الشيوعي صوتوا مع القانون، ثلاثة عن حزب القائمة العربية الموحدة صوتوا ضد القانون، ممثلي التجمع والقائمة العربية للتغيير ونائبين عن الحزب الشيوعي تغيبوا عن الجلسة.

[17]  امير اوحانا عن حزب "الليكود"، ايتان جينزبورغ عن حزب "كحول-لابن"، نيتسان هروبيتس عن "ميرتس"، يوراي هرتسنوا عن حزب "يش-عتيد"، عيدان رول عن حزب "كاحول-لابن"، ايتسيك شمولي عن حزب "العمل".

[18] من المفارقة ان منصور عباس ناقم على أعضاء المشتركة الذين تغيبوا عن التصويت او صوتوا مع القانون، لكنه غير ناقم على نتانياهو الذي تغيب عن التصويت والذي عين وزيرين مثليين في حكومته هم اول وزراء مثليين في تاريخ اسرائيل.

[19] هذه المقالة مخصصة لذكرى سارة حجازي (1989-2020).


المقالة بنسخة pdf




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق