"من النهر الى البحر" ملاحظات حول الحل الفدرالي

شاركت في الشهر الماضي في ندوة سياسية، وقد طرحت في نهايتها سؤال حول الحل الفدرالي في فلسطين والسبب في عدم تبني القيادات السياسية لهذا الحل وتطويره. لاحقًا، تواصل أحد الزملاء معي لتوجيه انتباهي الى بعض الجوانب المتعلقة بهذا الموضوع. بناءً على ذلك، وحرصًا على ان لا أكون قد غفلت عن بعض الأمور، اكتب هذا الملاحظات لتوضيح ما قد سيئ فهمه.

أولاً، فكرة الحل الفدرالي في فلسطين تُطرَح من قبل أطراف إسرائيلية يمينية بشكل ديماغوجي ومتطرف، ويجب الحذر من هذا الطرح الصهيوني ورفضه رفضا قاطعًا. من بين من يطرح هذا الموضوع حركة "هافدراتسيا" او "الحكم الفدرالي" كما يسمون أنفسهم.

قبل الخوض في تفاصيل برنامج هذه الحركة، انا اعتقد أن خطورة هذه الحركة لا تقتصر على برنامجها فحسب، بل تكمن أيضا في عملية التلاعب بفكرة "الحل الفدرالي" وتشويهها لتتناسب مع الأفكار الصهيونية اليمينية المتطرفة المرفوضة جملة وتفصيلا. بهذا تقوم حركة "هافيدراتسا" بتفنيد هذا الحل، حيث تعرضه وتروج له بناء على هذه الأفكار وانطلاقا منها.

حل الدولة الفدرالية الذي يطرح من قبل اليمين الإسرائيلي ليس حلا إنما تعميق لمنظومة الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري المبنية على سياسة التجزئة وبث الفتن بما يتوافق مع نهج محو السكان المحليين سواء بشكل تدريجي أو مباشر، بهدف تحقيق معادلة "أكثر ما يمكن من السكان على أقل ما يمكن من الأرض". حيث يثبت لنا التاريخ انه في الحالات التي لا ينجح فيها الاستعمار الاستيطاني بالقضاء على السكان المحليين أو طردهم وتهجيرهم، يقوم بحصرهم بمعازل على شكل "كانتونات" او "محميات طبيعة" بهدف السيطرة عليهم والتحكم في شؤونهم السياسية والاقتصادية.

تقدم حركة "هافيدراتسيا" الحل الفدرالي كحل إسرائيلي صهيوني على الكنيست الإسرائيلي الموافقة عليه وتبنيه. بناء عليه تقترح حركة "هافيدراتسيا" إنشاء دولة فدرالية واحدة، وهي دولة إسرائيل، وتشمل هذه كافة البلاد من البحر إلى النهر باستثناء قطاع غزة. تحتفظ هذه الدولة بالمستوطنات القائمة في الضفة الغربية، وتقسم الدولة الى ثلاثين كانتونا تديرهم سلطات محلية بالإضافة إلى سلطة مركزية واحدة، وهي سلطة الدولة الفدرالية. تمنح هذه الدولة حقوق المواطنة المتساوية لجميع السكان، وتضمن لهم تحقيق حقوقهم المدنية وطموحاتهم السياسية والاقتصادية والثقافية من خلال حكومة الكانتون الذي ينتمون إليه.

يمثل اقتراح حركة "هافدراتسيا" بكل بساطة ووضوح برنامجا للضم الشامل لجميع المناطق الفلسطينية تحت إطار دولة صهيونية فدرالية، تمارس المحو الممنهج والمستدام للسكان الفلسطينيين بهدف نزعهم من أراضيهم وابعادهم عنها. ولا يعد هذا إلا خطوة مرحلية في عملية المحو والاستيطان هذه.

اما ما جال في ذهني عندما تكلمت عن الحل الفدرالي فهو يتمثل بـ: دولة فدرالية واحدة وعاصمة واحدة في القدس، تجمع هذه من خلال اتحاد فدرالي سياسي واقتصادي بين دولتين مستقلتين. لا تستثني هذه الدولة قطاع غزة، ولا تستثني اللاجئين الفلسطينيين بل تعمل على تحقيق عودتهم الى فلسطين في إطار هذه الدولة. لا تقسم هذه الدولة البلاد الى ثلاثين كانتون ولا الى عشرين ولا حتى الى سبعة، بل تقوم على اتحاد سياسي واقتصادي بين دولتين بناء على معاهدات سياسية متفق عليها.

شتان بين هذا التصور وبين ما يطرحه اليمين الصهيوني في هذا الموضوع. فطرح اليمين الصهيوني للدولة الفدرالية يقوم على مقايضة الفلسطينيين حلم الدولة المستقلة بالمواطنة والحقوق المدنية في أطار دولة فدرالية واحدة هي دولة إسرائيل. اما ما ارمي اليه في طرحي للموضوع، فلم يتضمن أي تنازل عن أي من المطالب لأي من الأطراف. بالعكس، فهو يحقق الوحدة المنشودة في إطار دولة واحدة، ويقوم على وجود دولتين مستقلتين. تتحقق من خلاله رغبة كافة الأطراف بأن تكون القدس العاصمة الأبدية لهم، بحيث تكون هذه عاصمة الدولة الفدرالية المشتركة، ويضمن هذا الإطار عودة اللاجئين، ويتم الاتفاق من خلاله على مصير المستوطنات. وإذا تعذر الصلح الفلسطيني بين القيادات الفلسطينية المتنازعة على السلطة، من الممكن ان يشمل هذا الإطار الفدرالي اتفاقية ثلاثية يتوازى فيها الطرفان الفلسطينيان مع الطرف الإسرائيلي، بينما يتقاسم هؤلاء الحكم في ولايتين فلسطينيتين او في ولاية واحدة إذا توفرت الإرادة السياسة وإذا شاءت. 



آمال مثلوثي في فلسطين، ملاحظات في معايير التطبيع والمقاطعة

 لقد فتحت زيارة الفنانة التونسية آمال المثلوثي الى فلسطين (صيف 2023) ملف المقاطعة والتطبيع من جديد. وهذا بذاته أمر جيد لأنه يوفر لنا مثالًا عينيًا للحوار حول الموضوع بهدف تطوير آلياته وزيادة فاعليته وتأثيره.

بدايةً من المهم التنويه بأنه لا شك بأن المقاطعة على أشكالها هي من الآليات الناجحة جدًا في تقريع ومقاومة الاستعمار. بناء عليه، فإن الهدف من الخوض في هذا النقاش من خلال هذه المقالة هو الإضافة الى هذه الآلية وليس إبطالها. ولا بد أنه أصبح اليوم واضحًا لكافة القراء أن معايير وامكانيات المقاطعة قد تختلف من مكانٍ الى آخر. فما يمكن توقّعه من الأمريكي والأوروبي صاحب الامتيازات الكبيرة (الاقتصادية والأكاديمية والثقافية)، لا يمكن توقعه من الذين يعيشون مباشرة تحت الاحتلال. وما يمكن توقّعه من عربي مناصر للقضية الفلسطينية، لا يمكن توقّعه من فلسطيني يسكن في الشتات وعائلته تسكن في فلسطين.

بناءً على ذلك، يجب أن يكون المعيار الأول للمقاطعة قاطع على قدر استطاعتك وعلى قدر البدائل والامكانيات المتاحة لك. من استطاع أكثر وتوفرت له البدائل وقاطع اقل فهو مُلام، ومن لم تتوفر له البدائل والامكانيات فعذره معه. وهذا المعيار الأساسي والأولي نابع من فهمنا للورطة العميقة التي يعيشها الفلسطينيون في المناطق المحتلة، فالمقاطعة في حالهم هي سيف ذو حدين، فان توقعنا منهم مقاطعة نقية تامة فهذا سوف يعني رحيلهم عن البلد حتى يزول الاحتلال. وهذا في الحقيقة ما قالته القيادات العربية لأجدادنا في العام 1948، "أخرجوا وسوف تعودوا بعد بُرهة عندما نقضي عليهم"، فخرج من خرج وبقي من بقي وها نحن الى اليوم في انتظار العودة.

هذه هي للأسف الترجمة الفعلية على ارض الواقع لمقولة "مُحاصرة السجّان أولى من زيارة السجين"، ففي عملية محاصرة السجان قد يموت السجين قبل ان يستسلم السجان، فما هي الفائدة من هذا؟! فهل هدف المحاصرة هو تحرير السجين ام استبدال السجان؟! وإذا عدنا بهذه المقولة من البُعد المجازي الى ارض الواقع، فهل ترفض الأمهات الفلسطينيات على سبيل المثال زيارة أبنائهن وبناتهن في السجون الإسرائيلية لأن هذه الزيارة منوطة بموافقة الاحتلال؟! كلا، بل تذهب الأمهات الفلسطينيات وعائلات الأسرى بعزيمة كاملة لزيارة فلذات اكبادهن رغم كل العقبات التي يضعها امامهم المُحتل، ويعرفن أن إصرارهن يرفع من معنويات فلذات أكبادهن ويقوي من عزائمهم. وهذه الزيارات لا تحول السجن الى مزار سياحي أو الى مكان مقدس نحج إليه، لكننا نزور أسرانا ونحارب من أجل ذلك ولا نتوقف عن مقارعة المحتل بكافة الوسائل الممكنة.

كنقطة انطلاق، انا أوافق الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني في هذا الأمر. السياحة في فلسطين مرفوضة والحجاج الى فلسطين مرفوض. الدخول الى فلسطين بتصريح من المحتل هو فعل سياسي من الدرجة الأولى، ولا يمكن لهذا أن يقتصر على فوائد ومتع فردية وشخصية. من غير المعقول أنه في حين ينزف الفلسطينيون وتزهق أرواحهم وتهدم بيوتهم يأتي آخرون للنقاهة والحج في البلد!! السياحة والحج غير ملائمين في وضعنا هذا، ومرفوضين رفضًا قاطعًا، فمن نحتاج إليهم حقيقةً هم مناصرو القضية الذين سوف يحملونها معهم وهم عائدون إلى بيوتهم وسيكونوا رافعة لها في بلادهم وفي العالم. وهذا في الواقع ما قامت به آمال المثلوثي، ويمكن لكل فنان ملتزم وكل صحفي مناصر للقضية أن يقوم به. لهؤلاء نقول اهلاً وسهلاً، اما للسياحة والحجاج فنقول لا اهلاً ولا سهلاً، خليكم في بيوتكم أحسن.

بالنسبة لجواز السفر، فهذا أمر مضحك ومبكي. أولاً، جوازات السفر آلية بيروقراطية تستخدمها الدول لضبط حركة الناس، الخارجين من البلد والوافدين إليه. لذلك لا يمكنني اعتبار معيار جواز السفر إلا كمعيار بيروقراطي والمقاطعة الناتجة عنه ما هي الا مقاطعة بيروقراطية سطحية. بالإضافة إلى ذلك، هذا المعيار بالتحديد هو معيار لأنظمة سياسية غابرة جرائمها بحق شعوبها لا تقل جرمًا عن جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني. هذه المقاطعة البيروقراطية تخفض من سقف الحوار الى أدنى مستوى. لماذا يخاف العربي الى هذه الدرجة من ختم الاحتلال على جواز سفره؟ وما هي قيمة هذا الختم امام الاختام التي يضعها الاحتلال يوميًا على أرواحنا وأجسادنا ونفوسنا، ويوميًا نقاوم لنمحيها ونمحي كل أثر لها، الا يستطيع العربي مقاومة ختم صغير على ورقة أصغر؟! هذا المعيار البيروقراطي السطحي والسخيف يدفعنا إلى ادعاءات أكثر سطحية وسخافة للرد عليه. مثلاً، الادعاء بأن مثلوثي تحمل جواز سفر امريكي لهذا لا ينطبق عليها تعريف تطبيع الشعوب العربية مع العدو، أي بالله؟!! هل نعتمد الان على جوازات السفر لتحديد هويتنا؟! أولا نتوقع من الأمريكي والأوروبي أن يلتزموا بذات معايير المقاطعة بل بأكثر منها؟! وهل نرغب حقًا في الاعتماد على امتيازات جواز السفر الأمريكي لتحديد من يستطيع الدخول إلى البلد ومن لا يستطيع؟! هل من المعقول ان تتدنى معايير المقاطعة لهذا الحد؟! الخوف من الختم على جواز السفر هو خوف من السلطات ومن الأنظمة السياسية، فهل حملة المقاطعة تتولى حاليًا مهام هذه الأنظمة وتعمل كوكيل لها وتنوب عنها؟!

أما النقطة الأكثر أهمية والأكثر إثارة للجدل في زيارة آمال المثلوثي إلى فلسطين هي زيارة المناطق المحتلة عام 1948. وهذا موضوع شائك جداً ولكي نفهمه علينا ان نفهم الواقع الفلسطيني المختلف تمامًا عما كان قبل عشرين أو خمسين أو سبعين سنة. الواقع الفلسطيني اليوم هو واقع أبارتهايد على كامل التراب الفلسطيني. ففلسطين في المِخيال الجماعي العربي والفلسطيني هي واحدة وحدودها واضحة. فلسطين المتخيلة الموجودة في ذهن كل فلسطيني هي المساحة الجغرافية الممتدة على كامل التراب الفلسطيني، يحدها من الشمال لبنان، ومن الشرق المملكة الأردنية الهاشمية، ومن الجنوب البحر الأحمر وصحراء سيناء ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط.

وبالرغم من وحدة فلسطين الجغرافية في ذهن كل فلسطيني، إلا أن الواقع المفروض علينا جميعًا هو واقع أبارتهايد وتجزئة اجتماعية وجغرافية إلى بانتوستانات، ولكل بانتوستان واقع اجتماعي ونظم قانونية قد تختلف من مكان الى آخر وفقًا للظروف التاريخية والسياسية لتشكل البانتوستان. وعلى الأقل يوجد لدينا في فلسطين الجغرافية خمس بانتوستانات: بانتوستان المناطق المحتلة عام 1948، بانتوستان القدس، بانتوستان الضفة، بانتوستان غزة، وبانتوستان المخيمات الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية. وإن تحدثنا عن فلسطين الاجتماعية، فهذه البانتوستانات قد تتحول الى سبعة على الأقل لتشمل هذه: الأهل في الشتات وفي مخيمات اللاجئين في الدول العربية. وواقع التجزئة هذا بات حقيقة يفرضها علينا الأبارتهايد قصرًا. وبطبيعة الحال فإن جوهر هذه البانتوستانات ليس بالتجزئة الجغرافية فحسب، بل بالتجزئة القانونية والقضائية وبالمكانة السياسية المختلفة لسكان كل بانتوستان، والتي بالضرورة ينشأ عنها لا محالة أشكال اجتماعية مختلفة تتلاءم مع الظروف المفروضة على كل منها.

فالفلسطينيون سكان المناطق المحتلة عام 1948 هم مواطنون في دولة قامت على نكبة شعبهم، وعلى الرغم من المواطنة، إلا أنهم اقلية قومية مقموعة داخل الدولة. الفلسطينيون في القدس لديهم إقامة قانونية تسمح لهم بالتواجد في المدينة، لكن بشروط مجحفة ومقيدة وبتهديد دائم بسحب الإقامة وابعادهم عن المدينة. وعلى الرغم من تمتعهم بحرية الحركة والعمل تمامًا كالفلسطينيين سكان المناطق المحتلة عام 1948، إلا أن مكانتهم السياسة تختلف. أما سكان المناطق المحتلة عام 1967، فواقعهم متعلق الى حد ما بالعلاقة التاريخية والقانونية مع الدول الحاضنة لهم قبل الاحتلال، المملكة الأردنية في الضفة ومصر في غزة. بالإضافة الى الحصار المستمر على غزة منذ ما يقارب العشرين عامًا. اما سكان المخيمات فواقعهم متأثر بلجوئهم عام 1948 وبرعاية الأونروا لأحوالهم. وتختلف حياة الفلسطيني في مخيمات اللجوء عن حياة اللاجئ الذي توطن في إحدى الدول، وتختلف حياة اللاجئ مرتين عن حياة اللاجئ مرة واحدة وهكذا.

وعلى الرغم من هذا، في النهاية، في أذهاننا جميعاً فلسطين واحدة، لكن حال الناصرة وحيفا وعكا يختلف عن حال القدس ورام الله وبيت لحم والخليل. ما ينطبق على القدس لا ينطبق على الضفة وما ينطبق على الضفة لا ينطبق على مناطق الـ 48. فعلاقة الفلسطيني بالمستعمر تختلف بحسب مكانته السياسة والقانونية. جذور هذه العلاقة قهرية للجميع، لكن في الواقع فقد تتفاوت أشكال العلاقة مع المستعمر وقد تتحول بحسب المكانة القانونية والسياسية للفلسطيني. فنجد على سبيل المثال أن العلاقة القهرية في حال فلسطيني المناطق المحتلة عام 1948 تحولت الى علاقة قهرية-عضوية، في حين لدى فلسطيني الضفة، لا يمكن اعتبار هذه العلاقة القهرية كعلاقة عضوية. وهذا ما يميز حال فلسطيني المناطق المحتلة عام 1948 عن باقي المناطق. وبالرغم من اننا جميعاً نخضع في نهاية المطاف لذات السلطة الاستعمارية الحاكمة، سواء كانت عسكرية أو مدنية، ولذات المنظومة الاقتصادية المفروضة قصرياً على الجميع، إلا أن طبيعة العلاقة القهرية مع المستعمر تختلف من مكان الى آخر، وهذا أمر من المهم جداً أن نضعه أمام أعيننا عندما نتفحص موضوع التطبيع والمقاطعة، حيث له تأثير كبير في القدرة على تطبيق المقاطعة وفي الوقوف على الثغرات التي قد تورط الفلسطيني الملتزم بالقضية توريطاً قهرياً رغماً عن إرادته وعن حسن نواياه.

بناءً على هذا، لا أتفق مع من يدعي أن زيارة الفنانة آمال المثلوثي للقدس ورام الله وبيت لحم تعادل زيارتها لحيفا وعكا والناصرة. كذلك، لا أعتبر أن مجرد عبور الحدود المسيطر عليها من قبل الاستعمار أو دخول القدس بتصريح من الاستعمار يعتبر تطبيعًا. بل أرى أن زيارة القدس ورام الله وغيرها من المدن في المناطق المحتلة عام 1967 هي أمر مُحبذ، لكن هذا لا ينطبق على المناطق المحتلة عام 1948 بهذه البساطة. صحيح أن كافة المناطق في فلسطين تخضع للسلطة الاستعمارية ذاتها، سواء كانت عسكرية أو مدنية، وأنها جميعاً تخضع لذات النظام الاقتصادي والعلاقات الاقتصادية القسرية والقهرية المفروضة على الجميع، لكن المنظومة القانونية في الضفة وغزة تختلف عن المنظومة القانونية في مناطق الـ 48، كذلك النظام الاجتماعي الناتج عنها وتحديداً طبيعة العلاقة القهرية مع المُستعمر.

العلاقة بين الفلسطينيين والمستعمر في مناطق الـ 48 تطورت خلال 75 عامًا من القهر لتتحول إلى علاقة عضوية، خاصة بعد أن تنازلت منظمة التحرير الفلسطينية في سنوات السبعين عن هذا الجزء من الشعب الفلسطيني وعن هذا الجزء من فلسطين، بينما لم يتنازل هؤلاء عن فلسطين ولم يتنازلوا عن اللغة والثقافة والهوية وعن الانتماء للأرض وللناس. وعلى الرغم من تحول العلاقة مع المستعمر من علاقة قهرية إلى علاقة قهرية عضوية، فإن الفلسطيني لم ينصهر من خلال المواطنة في دولة المستعمر، وحافظ على وجوده كأقلية قومية في دولة قامت على نكبة شعبه وأرضه. ورغم وجود الأبارتهايد البنيوي الجغرافي والاجتماعي الواضح في المناطق المحتلة عام 1948، إلا أن جزءًا كبيرًا من الفلسطينيين يعيش ويعمل ويدرس لجوار المستعمر بشكل يومي. وهذه العلاقة ليست مماثلة في الضفة، فوجود المستعمر في رام الله وغيرها من المدن الفلسطينية في الضفة ليس بأمر عادي كما هو الحال في الناصرة وحيفا وعكا. بناءً عليه يجب أن تختلف استراتيجيات ومعايير المقاطعة والتطبيع في كلا المكانين، بالإضافة الى ضرورة ملائمة ظروف المكان وواقع الفلسطينيين في كل منها.

وعلى الرغم من أن مثلوثي قررت التخلي عن فكرة إقامة حفل في مدينة حيفا بسبب الجدل والتباين في الآراء، إلا إنني أود الاستعانة بما حدث لإلقاء الضوء على معايير المقاطعة والتطبيع في الأراضي المحتلة عام 1948 وتطوير استراتيجياتها.

زيارة فنانين مثل آمال المثلوثي للفلسطينيين في الضفة وغزة أو في مناطق الـ 48 هي حق لكل فلسطيني نابع من كونه ابن لهذه الثقافة التي ينبثق عنها هؤلاء الفنانون. ورغم تحفظي المُعلن من إقامة الحفل كما أعلن عنه في حيفا او في أي مكان آخر في المناطق المحتلة عام 1948، إلا أنني أرى مخرجاً من هذه الورطة يكمن في عملية استرداد ولو مؤقتة للمكان من خلال تنظيم هذه الحفلات كحفلات خاصة. ربما لا ننجح بتطبيق هذا الأمر حالياً على هذا العرض، وللحقيقة فإن التاريخ أثبت اخفاقًا كبيرًا في هذه التجربة في السابق. لكن قد تكون هذه آلية ناجعة يجب علينا تطويرها واعتمادها مستقبلاً.

وفي هذا السياق، أود التنويه الى الأمور التالية:

أولاً، عرض فني ملتزم في حالنا يجب أن يتوفر فيه شرطان: فنان ملتزم وجمهور ملتزم. في دعوة أمال المثلوثي إلى حيفا، للأسف الشديد تم الإخفاق في ضبط الشرط الثاني، وتقع المسؤولية في ذلك على منظم الحدث. فتوش، المقهى والمطعم أولاً ولاحقاً فتوش البار، هو علامة ثقافية لامعة في سماء حيفا الفلسطينية ومعقل ثقافي للشباب الفلسطيني في المناطق المحتلة عام 1948. لكن بطبيعة مكانته القانونية، فهو مكان تجاري خاضع للقانون الإسرائيلي الذي يفرض عليه عدم التمييز بين الوافدين إليه. نتيجة لذلك، يفتقر فتوش القدرة على ضبط طبيعة الجمهور الوافد إليه. بهذا فسوف يكون من المؤسف جدًا بل من المزعج لدرجة لا تطاق، أن تحضر عرض لآمال مثلوثي في فتوش وبجوارك جندي مُسَرح أو جندي متقاعد أو جندي احتياط بلباس مدني يحضرون العرض معك. باعتقادي هذا الإخفاق لا يُغتفر، وتقع كامل المسؤولية في توضيح الأمور للآمال لمثلوثي على عاتق منظم الحدث الذي انجر على ما يبدو وراء دوافع رومانسية وغفل عن الواقع السياسي القاهر الذي نعيشه.

ثانياً، من غفل عن هذا الموضوع في تنظيم الحفل في فتوش، فلا بد أنه ما زال غافلاً عنه في تنظيم الحفل في أي مكان آخر. الحفل الخاص والمغلق والبديل، إن صح الخبر المتناقل عن صفحة الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، بقي مفتوحًا امام كل من استطاع شراء التذكرة بدون أي علاقة بموقفه من القضية الفلسطينية أو بالجرائم السياسية والإنسانية التي ربما لطخت يديه وتورط بها. أنا واثقة تمامًا بأن مثلوثي بذاتها لا تريد هذا، وتقع المسؤولية كاملةً في هذا الإخفاق على من راوغ ولم يشرح ولم يوضح لمثلولثي حقيقة الحال.

ثالثاً، تنظيم الحفل بشكل "خاص ومغلق" هو أيضاً اشكالي في هذه الحالة، فهو يحوله الى حدث طبقي نخبوي، الى جانب أنه ما زال مُخفق في ضبط شرط الجمهور الملتزم. فلو كان الحفل خاصًا ومغلقًا بناءً على ضرورة توفير شرط الجمهور الملتزم، لكنت فهمت ذلك. لكن حاليًا، إن صح خبر الحفل البديل، فهو بمثابة حفل خاص مُتاح أمام كل من استطاع شراء التذكرة عبر موقع التذاكر الإلكتروني، وهذا يضاعف من المشاكل المتعلقة بهذا العرض، حيث يحوله إلى عرض خاص لجمهور نخبوي، يتمتع اصلاً بامتيازات وأفضليات عديدة، ومن اراد منهم حقاً حضور العرض فقد توفر له ذلك من خلال العروض في القدس وبيت لحم ورام الله. اما أن تأتي مثلوثي إلى حيفا بهدف إقامة عرض خاص امام فئة صغيرة ونخبوية فللأسف الشديد هذا يحول العرض الى عملية ترفيه لفئة محددة من الناس ليست بالضرورة ملتزمة بأي شيء نعتقد أنه من الواجب عليها الالتزام به قبل أن تأتي مسرعة مهرولة الى العرض.

رابعاً، حضور مثلوثي الى اراضي الـ 48 هو موقف وتصريح سياسي من الدرجة الأولى، ولا يمكن القيام بهذا إذا لم نستطع المجاهرة به والدفاع عنه. المعركة في موضوع التطبيع والمقاطعة في حال فلسطيني الـ 48 هي معركة اعلامية. فنحن طُعم سهل لآلة الدعاية الإسرائيلية، التي لن تتردد في استعمال أي شكل من اشكال وجودنا لتعكس صورة إنسانية ومتنورة للاحتلال. تنظيم الحفل البديل كـ"underground" يقلب الموازين بشكل غير معقول ويتوافق مع مصالح الصهيونية والبروباغندا الإسرائيلية. فمِن مَن انت هارب لتعقد حفلك في الخفاء؟ عرب يهربون من عرب وعرب يلاحقون عرب واسرائيل توفر لهم المساحة الآمنة للقاء؟!! هذا الامر مرفوض جملة وتفصيلًا.

خامساً، وجود آمال المثلوثي في البلاد قد يكون رافعة إعلامية لقضايانا، لذا يفضل لو تم تنظيم الموضوع بشكلٍ أفضل، وتم الاستعداد للمعركة الإعلامية التي ستُثار حول هذا الحدث. ففي هذا السياق، يسعى الاحتلال لاستغلال أي حدث بغض النظر عن طبيعته، للترويج لصورة إنسانية ومتنورة مُزيفة عن الاحتلال، وزيارة مثلوثي او غيرها من فنانين ملتزمين او صحافيين مناصرين للقضية قد يساعد في نقل الشهادة المباشرة لوسائل إعلام، ولسياسيين ولمجتمعات أخرى ينشطوا فيها.

بالإضافة الى ذلك، فإن حملة المقاطعة الفلسطينية أصبحت خبيرة بمسألة مناهضة التطبيع الوردي أو ما يُعرف بالغسيل الوردي (Pinkwashing)، فيا حبذا لو يتم تبني آليات المعركة الإعلامية التي استعملت في هذا الموضوع وتطويرها لمناهضة ما سوف تقوم إسرائيل بالترويج له على أنه تطبيع ثقافي.

وللنهاية، عودة إلى من يدعون بأن دخول فلسطين بحد ذاته هو تعدي على مفهوم المقاطعة وتجاوز للخطوط الحمراء، أرغب في التأكيد بأن المقاطعة والتطبيع ليست مسألة بيروقراطية. ختم جواز السفر او لم يختمه، اعطاك تصريح او لم يعطيك، سمح لك بأن تدخل البلد او لم يسمح لك، عن طريق الجسر او عن طريق المطار، بجوازك الأجنبي او بجوازك العربي، اهانك وكسر عزة نفسك لما دخلت البلد ولا احترمك؟! أعزائي، نحن نعيش تحت احتلال، لا يوجد لنا هذا القدر من الرفاهية، طبعا سوف يهينك ويذلك بكل وسيلة ممكنة وجوازك الأجنبي لن يشفع لك، ليش وين فكرتوا حالكوا جايين؟! اهلا وسهلا فيكم في الواقع اليومي للاستعمار، هذه ليست زيارة نقاهة واستجمام. دخولك لفلسطين هو جزء من مقاومة وصمود هو تصريح بأن هذه الأرض لنا ونحن ننتمي اليها، لنا حق عليها ولها حق علينا، رغما عن كل الإهانات التي سوف يضعها المستعمر امامنا. اما من يعجز عن تحمل الإهانة ويعجز عن مواجهتها فمن الأفضل ألا يأتي، خليها علينا احنا منواجه لحالنا. من شارك في المعركة سوف يخرج بملابس ملطخة، ومن جلس بعيدا وانتظر انتهائها هؤلاء هم من ستبقى ملابسهم وجوازات سفرهم نقية نظيفة.

انتهيتُ من كتابة هذه الكلمات وقد انتشر خبر إلغاء عرض الفنانة امال المثلوثي في مهرجان الحمامات الدولي في تونس المزمع تنظيمه يوم 9 آب 2023، كلي آسف على هذا القرار، وعلى امل بأن يأخذ منظمي المهرجان بعض من هذه الملاحظات بالحسبان وعلى آمل ان لا تخسر تونس واحدة من أروع الفنانات التي ولدت من رحمها. 

المقال بنسخة PDF