فوكوشيما في زمن الرجعية والتخلف فمن يحتاج الى هذا الكم من الطاقة؟!


ما زالت الأخبار تتوافد حول الكارثة النووية في فوكوشيما في اليابان. وبينما تتصدرالاخبار أنباء أنفجار تلو الأخر... المفاعل الاول، المفاعل الثاني، الثالث، والرابع... يشغلني السؤال كم من المفاعلات النووية تحتاج دولة واحدة؟! ولماذا نحتاج الى كل هذا الكم الهائل من الطاقة؟

في محض الأزمة النووية تتعالى أصوات قارعي الطبول البيئية لتهليل مصادر الطاقة البديلة الأقل توليثا، فيبرز الخطر الإشعاعي الناتج عن الطاقة النووية والتلوث البيئي الناتج عن حرق النفط والفحم ويظهروا لنا كمصدر الشر والدمار البيئي. وفي قمة الخوف والفزع العالمي تتألق الطاقة البديلة وتظهر كمنقذة العالم من الدمار البيئي ومرة أخرى تتحول الكارثة البيئية الى فرصة أقتصادية لأصحاب الفطنة وسريعي البديهة وهذة المرة لترويج شركات الطاقة البديلة وعلى رأسها الطاقة الشمسية حيث يُهيئ لنا الأنتهازيون أن أعتمادنا الطاقة البديلة الغير ملوثة هو الحل لقضايانا البيئية وهو موطن خلاص العالم من شر الآفات البيئية!!

الكرة الأرضية بطبيعاتها زاخرة بالطاقة. الطاقة الشمسية، طاقة الرياح، الطاقة البركانية، الطاقة الكامنة في باطن الكرة الأرضية، طاقة حركة القارات التي تتجلى لنا في الهزات الأرضية وطاقة الأمواج المائية ولا سيما منها التسونامي. فان تجاهلنا لبرهة الأعتبارات التقنية والأقتصادية فكل هذة هي مصادر طاقة بديلة، لكن الأعتماد على اي منها قد يكون له أثار جانبية على توازن الطاقة للكرة الأرضية لا نعي عواقبها بعد. وبتسارعهم تهليل مصادر الطاقة البديلة يتعامل بعض البيئيين مع قضية الطاقة بشكل عيني ومحدود متجاهلين شمولية القضية البيئية. من هنا اريد العودة الى السؤال الأولي وهو لماذا نحتاج الى كل هذا الكم الهائل من الطاقة؟ ماذا نرجو منها وماذا نفعل بها؟ وهل الطاقة البديلة هي التي ستخلص العالم والكرة الأرضية من آفاتها البيئية؟

أذا تساءلنا لماذا تحتاج اليابان الى هذا الكم الهائل من الطاقة فأن الاجابة بسيطة، فأن الطاقة هي التي تشغل عجلة الأقتصاد حيث تغذي الأنتاج الصناعي، الزراعي، التجارة وكافة الأعمال اليومية التي يقوم بها أفراد المجتمع والدولة عامة. من هنا فأن نجاح اليابان وتألقها كقوة أقتصادية عالمية يعتمد على توفر الطاقة، الكثير من الطاقة!! كذلك الأمر بالنسبة لكل دولة تود المثابرة في السباق الأقتصادي العالمي فكل دولة تبحث عن الكم الأوفر من الطاقة بالسعر الأرخص. لكن أذا نظرنا الى الموضوع بنظرة شمولية أكثر تضح لنا الأمور بشكل مختلف، فالتعامل مع القضية البيئية بشموليتها من المنظور الأقتصادي يكشف لنا جوانب أخرى للقضية حيث أن عملية الأستهلاك الغير محدود للطاقة في عالم محدود ليست الا مستحيل ووهم لا اساس له من الواقعية.

الحاجة الى الطاقة تحتم علينا أختيار الطاقة الخضراء كأقل سوءا من بين الخيارات المتوفرة، لكن الوهم الذي يحيكه لنا هذا الخيار يخفي عن أعيننا الأهمال البيئي الذي يعتمده نمط الحياة الأقتصادي ذو الأستهلاك الغير محدود. فالنمو الاقتصادي الغير محدود مشروط بعملية استهلاك غير محدودة ولكي تستمرعجلة الأقتصاد بالدوران فلا بد لنا من الأستمرار بالأستهلاك وتنمية ثقافة استهلاك غير محدودة، من هنا يتوجب علينا طرح السؤال ماذا نستهلك ولماذا؟

مما يثير العجب انه في عصر التقنيات المتقدمة وفي زمن حققت به البشرية انجازات لم يحلم بها أسلافنا، في عصر وصل به الانسان الى القمر وأبعد وطور به آلات تخترق الفضاء وتخضعه، في عصر تطورت به تقنيات المعلومات لتحمل كم هائل من المعلومات على قطع صغيرة من الشرائح الألكترونية في هذا العصر ما زالت هواتفنا النقالة تتلف بعد ثلاث سنوات ومعدل عمر سياراتنا لا يزيد عن العشر سنوات وبراداتنا تتحول بسرعة الى خردوات نفضل التنازل عنها على تصليحها، واذا حافظت على بعض الآلات واعتنيت بها فسريعا تجد من يقنعك انها ليست جميلة ولا تتماشى مع الموضة، او من يقنعك انها غير مريحة ولا تتجاوب مع حاجاتك الخفية التي لم تعي وجودها الا أن أخبروك عنها أو ربما أوجدوها لك. في عصر التقنيات المتقدمة تتلف الأدوات والآلات بوتيرة لم تتلف بها بأي عصر من قبل، كل ما ينتج لنا وكل ما نقتني من معدات يتلف سريعا ويتفانى... كلها الا النفايات. فاذا عدنا للسؤال لماذا نحتاج الى هذا الكم الهائل من الطاقة وماذا نفعل بها؟ فتظهر لنا الاجابة بسيطة جداً ومجردة: نستهلك ونستهلك ونستهلك وننتج نفايات بوتيرة لم تعرفها البشرية من قبل! كم غير محدود من النفايات يحول الكرة الأرضية تدريجيا الى مكب نفايات واحد شاسع ضخم وكبير!

فاذا عدنا للتقنيات المتطورة الجيدة والغير ملوثة، على سبيل المثال تقنيات السيارات، فهي متوفرة منذ زمن الا أن الشركات التجارية تمنع وصولها الى السوق لأسباب تجارية بحتة. تقوم الشركات الكبرى بأقتناء الأختراعات الجديدة وحقوق نشرها وتوزيعها وهكذا بالأضافة الى السيطرة عليها والأمتناع عن أنتاجها وتسويقها بواسطة حقوق أقتناء المعلومات تمنع هذة الشركات ترويج المعلومات حول هذة التقنيات وبهذا تمنع تطور البشرية عامة والتقدم في مجال التطوير والاختراعات. فما بالكم أن أستفرد أديسون في حقوق انتاج الكهرباء فأين ستكون البشرية اليوم؟!! وهذا ما تقوم به هذة الشركات فبالاضافة الى السيطرة على السوق وانتاج سلع سريعة العطب تتماشى مع أعتبارتها الاقتصادية فأن هذة الشركات تقوم بالسيطرة على المعلومات وحصرها لتخدم مصالحها الاقتصادية وعمليأ تعيق التطور والتقدم التقني للبشرية حيث قد يكون أسرع بكثير مما نحن عليه اليوم.

اذا فان التقنيات المتوفرة توفر أمكانية أنتاج أدوات بجودة عالية معدل عمرها أكبر بكثير من النفايات التي تباع لنا اليوم في الأسواق لكن الأمر غير مربح أقتصاديا لمن يبغى الربح المالي، لا للشركات الصناعية والتجارية ولا للدول التي تبغى تصدر السباق الاقتصادي المالي. وهكذا بدل ان نعيش حياة رفاهية متقدمة نجد حياتنا رجعية متخلفة تعيق التقدم والتطور التكنولوجي وترفضه لأسباب أقتصادية ذات أهداف قصيرة المدى.

من حين الى أخر نجد بعض التقنيات الحديثة التي تجد طريقها الى السوق لكن هذة التقنيات عمرها قصير جداً كذلك لا يتم ملائمتها الى الأدوات الموجودة في السوق فتظهر لنا مسار التطور التقني كمسار متقطع غير متواصل يتطور بقفزات منفصلة تماما الواحدة عن الاخرى خلافا للواقع التراكمي له وهكذا ما أقتنيناه فقط بالأمس سريعا ما يتحول الى نفايات وخرداوات.

في سياق كل هذا يتسابق بعض البيئيين، وأسمحو لي أن أدعيهم بالزمارين والطبالين البيئيين، ذو النظرة البيئية المحدودة باللهث وراء المصادر البديلة للطاقة متجاهلين ان معظم ما نقوم به بواسطة هذة الطاقة هو أستهلاك وأستهلاك وأستهلاك وأنتاج خرداوات ونفايات!!! قد يتحدثوا بغالبيتهم عن أمكانية تدوير هذة النفايات أي أعادة تصنيعها أو أعادة أستعمالها وما ذلك الا وهم بيئي حيث ان التدوير بحد ذاته ما هو الا عملية صناعية تجارية تقتصر على الثلويث البيئي كغيرها من العمليات الصناعية، ويمتنع هؤلاء عن وضع الأصبع مباشرة على المحك البيئي الأكثر حيوية وهو مناهضة ثقافة الأستهلاك الآني والأحادي والتحول الى صناعة بيئية ذو جودة عالية وأستدامة طويلة الأمد.

لذلك قبل التسارع بالانضمام الى الجوقة البيئية للطاقة البديلة وعلى رأسها الطاقة الشمسية التي تحولت الى السلعة الأكثر مواكبة للموضة الخضراء يجب التوقف والتروي والتفكير، ربما لا نحتاج الى هذا الكم الهائل من الطاقة!!! قد نستطيع الاكتفاء بأقل من ذلك بكثير!!! لكن أي من الدول لن تبادر الى الاكتفاء بالقليل فأن الاكتفاء بالقليل من الطاقة معناه أقل أنتاج، وأقل أقتصاد، وأقل عمل... والمعنيون بردعنا عن ذلك سوف يقولون "وأقل دخلا للفرد وأكثر فقرا"... لكن هذا غير صحيح وغير محتم فمن يحتاج الى هذا الكم الهائل من العمل؟! فلماذا لا نعمل جميعنا أقل ونتمتع بوقت حر وبرفاهية أكبر ففي نهاية الموضوع نحن نعيش في زمن التقنيات المتقدمة... لكن النسويات منا يعلمن ان دخول التقنيات الحديثة للبيت كالغسالة والنشافة والجلاية والمكنسة الكهربائية لم تكن هي تلك التي حررت النساء وليست هي التي سوف تحررهن، انما مناهضة المنظومات الأقتصادية وعلاقات القوة الهرمية، فهل ستقوم التقنيات المتقدمة بتحرير الكرة الارضية من عبئ الأستهلاك والأستغلال البشري؟!


© حقوق النشر محفوظة
نسرين مزاوي – مستشارة بيئية وناشطة نسوية حاصلة على اللقب الاول في علم الاحياء واللقب الثاني في الإدارة البيئية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق