تحت عنوان "نرفض خدمة جيشكم.. نتجند لشعبنا" انطلقت منذ اسبوعين تقريبا حملة اتحاد الشباب الوطني الديمقراطي لمناهضة تجنيد فلسطيني الداخل للجيش الأسرائيلي وللخدمة
المدنية. وهذة الحملة على اهميتها
وضرورتها الا انها اثارت لدي بعض التحفظات التي لا بد من تدوينها.
اولا اود ان احيي القائمين على هذة الحملة وعلى روح
المبادرة والطاقات الشبابية وعلى الالتزام بالقضايا الوطنية وعلى رأسها قضية
التجنيد والخدمة المدنية التي تستهدف فئة الشباب بالذات. ثانيا ليس ما سيأتي من
تحفظات او من نقض للطعن في مصداقية الحملة او في حسن نوايا القائمين عليها انما
لفتح باب النقاش حول المضامين والرسائل المباشرة والغير مباشرة للحملة مما سيؤدي
حتماً، كأي نقاش موضوعي، الى تطوير الأفكار والحراك الوطني الشبابي والسياسي
والعام.
طبعا الجملة التي استوقفتني هي جملة: "انا ما
ببيع..." وان دل هذا على شيئ فانه يدل على خيار جيد لجملة افتتاحية او لشعار لحملة اعلانية،
لكن للأسف لم تستوقفني هذة الجملة استحباباً انما تحفظاً لما تحويه من "انتماء"،
قد يقول البعض، أو "تعصُّب"، "انغلاق" و "ولاء جماعي جارف"،
قد يقول آخرون، وهم وجهين لعملة واحدة.
قد يقول البعض انها مجرد حملة، وبمجرد الحديث عنها
ونقاشها فهذا يدل على نجاحها، لكني لست بصدد تقييم نجاح او فشل الحملة من حيث عدد
المتحدثين فيها فهذا معيار يصح للأعلانات التجارية، اما بالنسبة للحملات
الاجتماعية او السياسية فلا بد أن تُقيم بحسب الافكار التي تستنبِطُها الحملة في أذهان
القارئين وبحسب القيم والافكار التي تزرعها في رؤس اليافعين منهم. وبما أن الحملة
شبابية وتستهدف الشباب المتحمس فلا بد من التعامل بحذر وبمسؤولية مع الأفكار
والرسائل المباشرة والمبطنة التي نزرعها في رؤوس هذة الفئة الواعدة من المجتمع.
الجُمل "انا ما ببيع ثقافتي"، "انا ما
ببيع تاريخي"، "انا ما ببيع شعبي"، "احنا ما منبيع لغتنا"،
"احنا ما منبيع قوميتنا"، "احنا ما منبيع بلدنا"، "انا
ما ببيع ضميري"، كلها تستحضر في ذِهن القارئ المحلي جمل مشابهة متداولة
وشائعة وهي "انا ما ببيع ديني"، "انا ما ببيع امي"، "ما
ببيع ابي"، "ما ببيع اخي"، "ما ببيع عائلتي، صديقي، رفيقي، ابن
عمي" والخ، ونعلم جميعا أن جمل كهذة تُنتهي عادة ب "حتى لو..." فلا
بد أن نسأل حتى لو ماذا؟ ولماذا تقتصر الحملة على الولاء بينما تهمل حدود هذا
الولاء؟ وهل هناك خطوط حمراء اصلاً لهذا الولاء ام انه غير محدود؟!
بالاضافة الى الانتماء والولاء الجماعي الغير محدود
(فالجماعة كما يبدو فوق كل شيئ) لا بد من الوقوف على القيم المبهمة التي تروج لها
هذة الحملة، فماذا لو جاءت هذة الجمل على لسان اشخاص غير فلسطينيين كيف ستقع على
آذاننا وكيف سنتعامل معها؟
ماذا لو سمعنا فرنسي يقول، انا ما ببيع بلدي... حتى لو كلفني
ذلك اغراق عشرات السفن ومئات اللاجئين في عرض البحر!
ماذا لو سمعنا امريكي يقول، انا ما ببيع ثقافتي (ثقافة
الماكدونالد وثقافة تلويث العالم وثقافة الأستهلاك بدون حساب)... حتى لو كلفني ذلك
دمار العالم!
ماذا لو سمعنا الماني يقول، انا ما ببيع قوميتي... حتى
لو أضطرني ذلك طرد كل من هو ليس الماني خارج البلاد؟
وماذا لو سمعنا اسرائيلي يقول، انا ما ببيع
شعبي\دولتي\ديني\ما وعدني به الرب من مقدسات... حتى لو...أضطررت الى قتل كافة
الفلسطينيين مثلاً؟؟؟!!!
ألا يشغل بالك عزيزي القارئ "حتى لو ماذا"؟
وماذا تتوقع؟ هل تتوقع من الاسرائيلي أن "يبيع"؟؟ هل تتوقع من
الاسرائيلي ولاء أعمى للجماعة والمقدسات الأسرائيلية ام تتوقع منه أمرٌ أخر؟ وهل
لك الحق ان تتوقع منه أمر أخر؟ وإن اساء الخيار ووقع هو في الخطاء فهل تحذو خلفه؟؟
وكيف ستتعامل عزيزي القارئ مع الفلسطينيين إن كنت انت اسرائيلياً؟ هل ستحافظ على
دولتك وشعبك ودينك ومقدساتك حتى لو...؟ حتى لو ماذا؟؟؟
لماذا يصح لنا ما لا يصح للأسرائيلي وللفرنسي والأمريكي
والايطالي؟ لماذا نحرم على الاخرين ونحلل لأنفسنا؟؟ ما هي القيم التي لن تتنازل
عنها عزيزي القارئ بأي ثمن؟ ما هي القيم التي تتوقع من الفرنسي او الأمريكي او الإسرائيلي
أن لا يتنازل عنها باي ثمن؟ ما هي القيم التي تتبعها وتحدد مسارك وخيارك السياسي وفقا لها؟
هل هي قيم تصح لكل البشر ام انها قيم خاصة بالشعب الفلسطيني وبما حَللَ وحَرَمَ لذاته؟
للأسف الشديد ان هذة الحملة لا تنشغل باي من هذة الأمور، كما ولا تريد لك ان تنشغل
بها، فكأنها تقول "خلي بالك فاضي، المهم ما تبيع".
وطبعاً شتان ما بين الهوية والإنتماء لجماعة معينة كخيار
سياسي وبين الهوية والإنتماء كقيمة "مقدسة" قائمة بحد ذاتها (ما بتنشرى
وما بتنباع). فمن الفرضيات العقلانية الأساسية في السياسة هي عدم وجود "مقدسات"،
فالمقدسات او القيم المقدسة تُحفظ من خلال الدستور وهي ليست خيار شخصي لهذا او ذاك
انما هي قيمة اساسية "مقدسة" مفروضة على الجميع او تحق للجميع ولا يمكن
لاي مسار او خيار سياسي المس او التداول بها. وهنا لا بد من التدقيق ومن التمييز
بين الهوية والإنتماء كحق عام لكل انسان، وبين الهوية والأنتماء لجماعة بذاتها
كخيار سياسي يعتمد على الحق وليس العكس. فالخيار السياسي يعتمد على الحق لكن الحق
لا يُشتق منه. الا أن الحديث عن الإنتماء الى ثقافة ولغة وتاريخ وقومية وبلد
بعينها كأمر "مقدس" (ما بنشرى وما بنباع) يُبطل الفرضية الأساسية في
السياسة (وهي عدم وجود تابوهات\مقدسات) ويفرغها من عقلانيتها ويحول المقدس الى دنس
والدنس الى مقدس، فتتحول الثقافة والجماعة الى "مقدسة" بينما يترك الحق
(في الإنتماء او اللا إنتماء) ويتحول الى امر مفهوم ضمناً مفروغ منه ومفروض على
الجميع بدون اي حق في اي خيار.
بالإضافة لا بد من الوقوف على أن التعامل مع اللغة والثقافة
والتاريخ والقومية والبلد كأمور "مقدسة" او كقيم قائمة بحد ذاتها يتنافى
ويتناقض مع طبيعة وجوهر هذة الأمور فهي كلها امور مرنة، متغيرة، ديناميكية حية وموجودة
في مسار تجدد دائم ومستمر. فاللغة الفرنسية كما العربية وغيرها ليست ما كانت عليه
قبل 500 عام، كذلك الهويات الجماعية والرويات التاريخية والدول والبلدان اي منها
ليس ما كان عليه منذ مدة، وليس اي منها "مقدس" او ثابت، كلها "حية"
(غير الآهية) وبطبيعتها دائمة التغيير، وكطبيعة الحياة فهذة الأمور ليست محصورة او
معزولة عن مؤثرات بفعل الزمان او المكان، وكباقي الثقافات واللغات والقوميات
والروايات التاريخية فهي "متأثرة من" و"تُأثر على" فكيف نُعلن
ولاء صارم بحت وصلب الى أمور "حية" بطبيعتها ودائمة التغير والتجدد؟!
طبعا هذة الحملة موجهة لفئة الشباب، لكن للاسف الشديد
بأعتقادي أنها تسيئ اليهم والى المجتمع عامة اكثر من اي امر أخر. فبواسطة جملة
"انا ماببيع..." يُختزل الخطاب السياسي مع شريحة الشباب ويُحصر في
ثنائية الولاء والخيانة وبهذا يُطالب الشباب الفلسطيني بالداخل بإعلان الولاء لمقدسات
"دنسة" (وربما إشتُقت هذة القداسة من قداسة الخصم الاسرائيلي لثقافته وهويته وقوميته، وربما اشتق الولاء من مطالبتنا بالولاء للدولة فنرد باعلان الولاء لمُقدسٍ أخر). اما ثنائية الولاء والخيانة فهي (كثنائية الجنة والنار) تشل
التفكير المستقل لدى الشباب وتحد من "ملعبهم السياسي"، ومن قدرتهم على تحدي
ومواجهة القيم والمبادئ السياسية التي يتخذونها ومن قدرتهم على تطوير طرح وخطاب
سياسي متين.
طبعا لا اقلل من أهمية الهوية والأنتماء وبالاخص اننا
نعاني من اضطهاد على خلفية أنتمائنا القومي (وقد كتبت في هذا سابقاً)، لكن شتان ما
بين الوعي السياسي لدور الهوية والأنتماء وبين التعصب والإنغلاق والولاء الجماعي المتجسدين
بجملة "انا ما ببيع..". فماذا إن تطورت الجماعة الى ما لا تهوى والى ما
لا يرضي ضميرك؟ لاء طبعاً "انا ببيع". وبكلمات اخرى غير مبطنة بالتخوين
"اتنازل"، طبعاً أتنازل. أكيد ولا شك فيه أنني سأتنازل عن الجماعة التي
لا يتماشى نهجها مع قيمي ومعايري واخلاقي وضميري. سأتنازل عن عائلة تتنازل عني
وسأحفظ عائلة تحفظني، سأتنازل عن كنيسة لعنت البشر وسأحترم كنيسة تحترم روح الله
الموجودة فيهم، سأتنازل عن ثقافة لا تحترم النساء وسأحفظ منها ما يحفظ إحترامي وكرامتي،
سأتنازل عن قوم ضلوا طريقهم وسأساند أخرون في مسار نضالهم نحو الحرية.
وبين اختزال الخطاب السياسي والترويج للعصبية الجماعية يبقى للشباب الذي استهدفته الحملة ان يبحث بذاته وبقواه الشخصية عن المعايير
والقيم التي سيتبعها (وقد يجدها هنا او هناك)، ففي صراع القوة الفارغ الذي انزلقت اليه الحملة بين "ببيع.. وما
ببيع.." بقي الشباب الوطني، المهدد بالتخوين الدائم، هائم على وجهه كالجندي مطالب
بأدنى مستويات المشاركة السياسية، الا وهي الولاء الجماعي والانصياع لمن شابهوا
"شيوخ الوطنية" وشابهت معاييرهم "فتاويهم" بضبابيتها وبفراغها
وبقابليتها للتأويل الى هنا وهناك بحسب اهواء ومصالح رب الجماعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق