"طحينة الأرز"... لحظة مركّبة وأربعة أوجه للواقع المثليّ

نشرت في مجلة فُسحَة، تجدونه هنا

لحظة مركّبة
وصلتني في الأوّل من يوليو (تمّوز) رسالة من زميل لي في "جامعة حيفا"، تحمل إعلان دعم لشركة "طحينة الأرز" النصراويّة لـ "جمعيّة الأجودا الإسرائيليّة لدعم المثليّين والمتحوّلين جنسيًّا"؛ إذ يهدف الدعم الماليّ المقدّم إلى إقامة خطّ داعم للمثليّين والمتحوّلين باللغة العربيّة. تقبّلت الخبر بصمت وبمشاعر متضاربة، فهي لحظة مؤلمة جدًّا يجب أن أفرح فيها، لكنّي لا أفرح، بل أتألّم. وينبع هذا الألم من وعي سياسيّ، تَشكّل خلال 25 عامًا من النشاط والعمل في مؤسّسات المجتمع المدنيّ، ومن مسيرة شخصيّة نحو التحرّر من القمع والتمييز والإبادة على كلّ الأشكال البيئيّة، السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والنسويّة الفرديّة والجماعيّة؛ فالحرّيّة كاملة لا تتجزّأ، ولا يمكنها أن تكون بمعزل عن حرّيّة شعبي الجماعيّة أو عن سعي الآخرين إلى التحرّر، من جميع أشكال القمع والاضطهاد العنصريّ الإثنيّ والطبقيّ والجندريّ والجنسيّ.
 دعم "طحينة الأرز" "للأجودا"، هو إنجاز للحركة المثليّة الفلسطينيّة، الّتي تعمل منذ عقدين من الزمن على رفع الوعي للقضايا المثليّة في الشارع الفلسطينيّ، لكنّها في الوقت ذاته خسارة فادحة لهذه الحركة، وربّما أكبر خسائرها. هي بمنزلة هدف ذاتيّ بحركة بهلوانيّة مدهشة لم يشهدها أحد من قبل. إلى جانب هذا، تُسْقِط هذه القضيّة ورقة التوت عن المؤسّسات المثليّة الفلسطينيّة ومسؤوليّاتها تجاه جمهور الهدف، الّذي تعمل من أجله وباسمه، وآن الأوان للجمهور المحلّيّ الواسع الداعم للمثليّين الفلسطينيّين بمحاسبة هذه الجمعيّات ومساءلتها. 

تفكيك اللحظة المركّبة وزخم المشاعر المتضاربة
فخر، بامرأة عربيّة رائدة انتشلت مصنعًا عائليًّا من الحضيض، وقادته إلى نجاح باهر على المستوى المحلّيّ والعالميّ، وبجودة منتوج لا تُضاهى، امرأة عربيّة تخوض معترك رجال الأعمال الذكوريّ الصارم، وتنجح لتكون مثالًا أعلى وقدوة يُحْتَذى بها. فرح، بلحظة تاريخيّة تقوم بها شركة عربيّة بإعلان موقف داعم لقضيّة جدليّة على المستوى العربيّ مثل قضيّة المثليّين وحقّهم في الحرّيّة والحياة الكريمة. حزن عميق جدًّا، على ثمرة تُقْطَف من شجرة الحراك الفلسطينيّ المثليّ، الّذي نما بجهد كبير خلال عقدين من الزمن، لتُغَذّي فأسًا تضرب ساق هذه الشجرة.
فقدان السذاجة، أمام دعم من قِبَل مؤسّسة تجاريّة؛ فما هذا الدعم إلّا خطوة تسويقيّة ذكيّة، تعتمد على تحليل عميق للسوق وللفرص المتاحة للشركة محلّيًّا وعالميًّا، وعلى مزاجيّة الجمهور وقدرة الخطوة على استفزازه وشدّ انتباهه. فقدان السذاجة مرّة أخرى، لتصحو من وهْم التسامح والتقبّل والدعم "على الأقلّ"؛ لتستوعب أنّك مُشيَّأ (أي مجرّد شيء) في خطوة تسويقيّة. عجز وصمت، أمام قوّة الصفعة الّتي تلقّيتها، وأمام واقع مركّب يمتزج فيه النجاح مع الفشل، وأمام طبقات عديدة من القضايا الإشكاليّة، وتقاطع رهيب في ما بينها. ابتدأ من الغسيل الورديّ، وفخّ الاستشراق، والاستشراق الذاتيّ، إلى إنقاذ المثليّ الفلسطينيّ من أهله، وتخليصه من مجتمعه بيد الإسرائيليّ الّذي نكبه، وترويج إنسانيّة هذا المخلّص، مقابل تجريد الفلسطينيّ من إنسانيّته وتصويره النمطيّ البشع وتشويه هويّته، والترويج المباشر وغير المباشر إلى كراهيته، وتعميق الانسلاخ بين المثليّ الفلسطينيّ ومجتمعه، لتكتمل نكبته. 

الواقع 1
تعود بداية الحراك المثليّ الفلسطينيّ إلى عقدين من الزمن، وقد نشأ هذا الحراك على خلفيّة الانتفاضة الثانية، ومن ضمنها ما يُعْرَف بـ "هبّة أكتوبر 2000"، وما تلاها من شرخ ونفور داخليّ بين المجتمع الفلسطينيّ والمجتمع الإسرائيليّ. تزامنت بدايات هذا الحراك مع عودة الشباب الفلسطينيّ من المدن الإسرائيليّة إلى بلداته العربيّة، ومع نموّ الشعور العميق بالغربة حيال كلّ ما هو إسرائيليّ، وانفصال مؤسّسات نسويّة فلسطينيّة عن نظيرتها الإسرائيليّة، وإنشاء مؤسّسات مستقلّة.
نما هذا الحراك متأثّرًا بتجارب التحرّر حول العالم، وعلى رأسها التجارب النسويّة والمثليّة، وتجارب السود في أمريكا وفي جنوب أفريقيا. تأسّست "أصوات – نساء مثليّات فلسطينيّات" عام 2002، على مبدأ التحرّر الشامل والحرّيّة الّتي لا تتجزّأ، لتكون الندّ للمؤسّسات المثليّة الإسرائيليّة، الّتي أسهمت في تشويه الهويّة الفلسطينيّة، وفي استغلال المثليّ الفلسطينيّ، وفي سلخه عن مجتمعه وتعميق الفجوة بينه وبين المثليّ الإسرائيليّ، وتعزيز الشعور بالغربة مقابل الإسرائيليّ "صاحب البيت"، القيّم على المؤسّسة والمؤتمن عليها وعلى طقوسها ومعاييرها. وروّجت هذه المؤسّسات عالميًّا، وعلى رأسها "الأجودا"، صورةً نمطيّة كارهة للشرق وللعرب وللمسلمين، من خلال ممارسات عنصريّة واستشراقيّة صارخة، شُيِّئ فيها المثليّ الفلسطينيّ، واسْتُغِلَّ بشكل رخيص جدًّا لتسويق هذه الصورة الّتي وقعت في حينه على أرض عالميّة خصبة، وأثمرت فيها المزيد من الكراهية والعنصريّة الليبراليّة.
منذ تأسيسها عملت "أصوات" على خلق مكان آمن للنساء الفلسطينيّات داخل مجتمعهنّ، وبشكل فطريّ، ومنذ يومها الأوّل ضمّت المجموعة نساء فلسطينيّات من شقَّي الخطّ الأخضر، لتكون بين أولى المؤسّسات الأهليّة الّتي تجمع بين هذين الشقّين. نجحت "أصوات" في سنواتها الأولى باختراق حاجز الصمت، ومواجهة العنصريّة والإقصاء ورهاب المثليّة على الصعيد المحلّيّ، وعقدت مؤتمرها الأوّل في حيفا عام 2007، وواجهت رهاب الشرق والمسلمين على الصعيد العالميّ، ولم تكن "لقمة سهلة" للّيبراليّة الطبقيّة البيضاء، وكانت بين أولى المناهضين للغسيل الورديّ والمُنادين بمقاطعة "موكب الفخر العالميّ" الّذي عُقِدَ عام 2006 في القدس.
في المقابل، تبلورت في هذه السنوات مجموعة "القوس" لتنشقّ هي الأخرى عن نظيرتها الإسرائيليّة، وتُسَيِّس عملها بشكل جريء واضح ومناهض للأبويّة الإسرائيليّة وللعنصريّة الاستعلائيّة. وبينما تلاشى وميض "أصوات" بعد سنوات قليلة من إنشائها، واظب ناشطو "القوس" على العمل الدؤوب بتحدٍّ وإصرار على تخطّي العقبات والصعوبات، ومحاولات التوفيق بين العمل المحلّيّ والعالميّ، بدايةً لصالح العمل العالميّ، ولاحقًا لصالح العمل المحلّيّ الفلسطينيّ والعربيّ القطريّ. وقد أختلف مع "القوس" في رؤيتي لطبيعة عملهم، وبتقاطعه مع المشهد المثليّ السياسيّ، لكنّ الخلاف في الرأي لا ينتقص من أهمّيّة عمل "القوس" وما حقّقت من إنجازات، ويشهَد لـ "القوس" عملها وإنجازاتها على مدار السنين، ويمكن الاطّلاع على هذه الإنجازات، من خلال موقع المؤسّسة، ومن خلال تقريرها السنويّ ونشراتها الدوريّة.
صراحةً، إنّ تجربة المثليّين الفلسطينيّين في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، هي تجربة مثليّة عربيّة فريدة من نوعها؛ فمع توفّر شرط غياب ظلم الدولة وأدواتها القامعة، أثبت المجتمع الفلسطينيّ أنّه قادر على احتواء أبنائه وبناته المثليّين والمثليّات والمتحوّلين والمتحوّلات، بل أكثر؛ فهو قادر على تقبّل نمط حياتهم المختلف وتقبّل عائلاتهم البديلة. وهذه هي ثمرة عقدين من حراك فلسطينيّ مثليّ مقاوم، مصرّ على انتمائه الفلسطينيّ والعربيّ والشرقيّ والمسلم، وعلى التحرّر من خلال صموده وعمله المباشر مع أبناء شعبه، دون المساومة على أيٍّ من مركّبات حرّيّته.
دعم شركة "طحينة الأرز" العلنيّ للمثليّين والمثليّات يمثّل ثمرة هذا الحراك، وفي ذات الوقت هي أكبر صفعة له؛ فالسيّدة جوليا زهر، مثل كلّ نصراويّ عاديّ، ما كانت لتدعم المثليّين قبل 20 عامًا من اليوم، بل على العكس؛ ربّما اتّسمت في ذلك الوقت بالهوموفوبيا المحافظة، وفي أحسن الأحوال بالهوموفوبيا الليبراليّة. وجزء من تركيبة هذه اللحظة المعقّدة والزخمة هي الشعور بالامتنان، لكن مَنْ هو الّذي يقدّم الامتنان لمَنْ؟ فهل يقدّم المثليّون امتنانهم لشركة "طحينة الأرز" على دعمها العلنيّ والمباشر؟ أم تقدّم السيدة جوليا زهر، مع كامل التقدير والاحترام، امتنانها للحراك المثليّ الفلسطينيّ، على العمل على مدار عقدين؛ لتحريرها وتحرير المجتمع الفلسطينيّ من رهابهم الفطريّ والأوّليّ للمثليّين، من أجل مجتمع أفضل؟

الواقع 2
إلى جانب هذا التحليل الاجتماعيّ والثقافيّ، لا يمكن تجاهل الواقع السياسيّ والاقتصاديّ المدنيّ، وخيارات المساهمة الاجتماعيّة المحدودة المفتوحة أمام القطاع الفلسطينيّ الخاصّ، فهذا واقع لا يُسْتَهان به، يفرض على السيّدة جوليا زهر وغيرها من سيّدات ورجال الأعمال، وعلى قيادات مؤسّسات المجتمع المدنيّ الفلسطينيّة أيضًا، تحدّيات مركّبة يجب عليهم هم أيضًا مواجهتها بحكمة وفطنة، كما واجه المثليّون الفلسطينيّون واقعهم المركّب؛ ففي إسرائيل كما في الولايات المتّحدة ودول أخرى حول العالم، يحصل القطاع الخاصّ على تخفيض ضريبيّ، مقابل التبرّعات الّتي يقدّمها لمؤسّسات المجتمع المدنيّ. وفي إسرائيل يقتصر هذا الإجراء على مؤسّسات مُصادَق عليها بتأشيرة رسميّة من قِبَل سلطة الضرائب، حسب البند 46 من قانون ضريبة الدخل. ومن الصعب جدًّا لمؤسّسة عربيّة الحصول على هذه التأشيرة، والّذي يحصل عليها عادة مؤسّسات كبيرة جدًّا، مع ميزانيّات ضخمة تستوفي شروطًا عديدة تُعَدّ تعجيزيّة للمؤسّسات العربيّة، وتمنعها من الحصول على هذه المكانة، وعلى التبرّعات من القطاع الفلسطينيّ الخاصّ المعنيّ فيها. ولا بدّ من أنّ "الأجودا"، الّتي نالت دعم شركة "طحينة الأرز"، مُصادَق عليها من قِبَل سلطة الضرائب، ومن ثَمّ لا بدّ من أنّ الشركة نالت حصّتها من التخفيض الضريبيّ، ممّا هو ليس بالإمكان تحقيقه في حالة "القوس"، أو في حالة 99% من المؤسّسات الأهليّة العربيّة الأخرى.

الواقع 3
على فرض أنّ هذه الخطوة خطوة تسويقيّة مدروسة، وإن لم تكن مخطّطًا لها، لكنّها بالتأكيد ليست عفويّة، فإنّ ردود الفعل الّتي أثارتها محلّيًّا وعالميًّا، ما هي إلّا صفعة مدوّية للحراك المثليّ الفلسطينيّ بعامّة، ولكلّ مثليّ فلسطينيّ بخاصّة؛ فما المثليّة والمثليّون الفلسطينيّون والعرب في هذه الخطوة إلّا سلعة، تخضع لحسابات الربح والخسارة الماليّة البحتة، وسوف تُتَرْجَم لاحقًا في سجلّ المبيعات للشركة على الأغلب، في السوق الإسرائيليّة وفي الأسواق الخارجيّة. وللأسف، فالضرر قد حصل ولا عودة عنه حتّى لو سحبت الشركة دعمها عن "الأجودا"، لكنّ الضرر لن يُمْحى؛ فاستفزاز المجتمع المحلّيّ بالسجّادة المثليّة الحمراء "ليثور" بعضٌ منه كما هو متوقّع، فتتجلّى "طحينة الأرز" على أبواب الأسواق العالميّة، الّتي تطمح إليها كملاك طاهر ضحيّة في ذاته، وفادٍ للمثليّ الفلسطينيّ. وبينما تلمع علامتها التجاريّة على خلفيّة الرجعيّة "الشرقيّة" و"الإسلاميّة" المستفزَّة، بحماية "قوّات الأجودا" الإسرائيليّة، فما هذا إلّا ترويج تجاريّ بواسطة أرخص أشكال الاستشراق وأدناها. وبينما سوف تسجّل الشركة أرباحًا، وسترتفع أسهمها في الأسواق فعليًّا ومجازيًّا، يبقى المثليّ الفلسطينيّ وحده في مواجهة الهوموفوبيا المستفزَّة والمتأجّجة. وعلى الرغم من أنّ الضرر من ورائنا، ولا يمكن إعادة إصلاح ما حدث، إلّا أنّ تراجع شركة "طحينة الأرز" عن دعمها "للأجودا" ما زال مطلوبًا على الأقلّ؛ كي يحفظ المثليّ الفلسطينيّ ماء وجهه أمام العالم، ويحافظ على فخره بمجتمعه وبما أنجزه خلال عقدين من الزمن. أمّا عدم التراجع فما هو إلّا كسرة خاطر ومذلّة وازدراء للمثليّ الفلسطينيّ، ولصوته الواضح والأصيل المسموع بدون أيّ التباس، أو تأتئه في رسالة "القوس". 
(من هون وبشكل شخصي، بقول لـ "طحينة الأرز": برافو، بسّ وجّعتينا)!   

الواقع 4
الصفعة الّتي تلقيناها من شركة "طحينة الأرز" مدوّية، ليس فقط لأنّها تدعم "الأجودا"، الندّ اللدود للمثليّين الفلسطينيّين، بل لأنّها أيقظتنا على واقع من فراغ كبير، خلّفته وراءها المؤسّسات المثليّة الفلسطينيّة، فـ "طحينة الأرز" ليست الوحيدة الّتي توجّهت إلى "الأجودا"، إنّما العديد من المثليّين والمثليّات والمتحوّلين والمتحوّلات الفلسطينيّين، يتوجّهون إلى "الأجودا" وإلى مؤسّسات مثليّة إسرائيليّة أخرى، وتحديدًا إلى مؤسّسات الشبيبة، حيث إنّ المؤسّسات الفلسطينيّة ليست عنوانًا بالنسبة إليهم، وليس لها ما تقدّمه لهم. وللحقيقة والواقع، فإنّ المثليّ الفلسطينيّ الموجود في ضائقة حقيقيّة ليس له إلّا الشارع أو المؤسّسات الإسرائيليّة.
أمّا المؤسّسات المثليّة الفلسطينيّة بنمط عملها الحاليّ، فهي إمّا غائبة وإمّا عاجزة؛ فـ "أصوات"، على سبيل المثال، تفتقر إلى أبسط المقوّمات الإنسانيّة للتعامل مع المتوجّهين الموجودين في ضائقة، ورغم تحاملها الحاليّ على "الأجودا" وعلى الغسيل الورديّ، إلّا أنّها توجّه بذاتها مَنْ يتوجّهون إليها "للأجودا"، وأقول هذا بناء على تجربة شخصيّة من السنة الماضية، حاولت من خلالها مساعدة متحوّلة فلسطينيّة وجّهتها إليّ نسويّات إسرائيليّات، وادّعت هذه الفتاة أنّها توجّهت إلى "أصوات"، لكنّهم "رفضوها وسكّروا التلفون بوجهها"، فتوجّهت بذاتي إلى "أصوات" كي أستفسر عن الموضوع، فكان الجواب بأنّها "إنسانة صعبة، وكان يصعب التعامل معها"، وبالفعل لقد وجّهوها بأنفسهم إلى "الأجودا"، و"حتّى ‘الأجودا‘  ما قدرت تساعدها"، حسب أقوالهم ولتبرير عجزهم.
أمّا "القوس"، فهي أيضًا عاجزة عن دعم الأشخاص المثليّين الموجودين في ضائقة، وقدرتها على التدخّل والمساندة محدودة جدًّا. وخلافًا "لأصوات" الفجّة، فإنّ "القوس" تبرّر عجزها هذا بخيار وبقرار إستراتيجيّ للمؤسّسة، وأقول هذا أيضًا بناء على تجربة شخصيّة، وعلى محاولات تدخّل سابقة مشابهة للحالة أعلاه.
لكن في الوقت الّذي تعجز فيه "القوس" عن التدخّل ومساندة المثليّ الفلسطينيّ الموجود في ضائقة، إلّا أنّها لا تتوانى عن التحامل على المثليّين الفلسطينيّين المتوجّهين إلى المؤسّسات الإسرائيليّة أو العاملين فيها، بادّعاءات الغسيل الورديّ والأسرلة، وهي وصمة لا يريد "المثليّ الفلسطينيّ الحرّ" التلطّخ بها!
وقد تكون فترة عقدين من الزمن فترة تأسيسيّة، ولهذا الحراك إنجازات عديدة أيضًا لا أتجاهلها ولا أستهين بها. لكن لا يمكن لهذه المؤسّسات أن تعفي نفسها بهذه السهولة من المسؤوليّة، عن الواقع الّذي أخذت على عاتقها تغييره، وعن الفراغ الفعليّ الّذي خلّفته في حياة المثليّ الفلسطينيّ الّذي لا يتقن مناظراتها.

نقاط التفاؤل
صراحةً، أفضل ما حصل في هذا الموضوع هو الكمّ الكبير من الدعم الهائل للمثليّين، الّذي صدر عن العديد من الناس، ومنهم الشخصيّات القياديّة والاعتباريّة. وبشكل شخصيّ، أنا أعتزّ بكلّ مَنْ عبّر عن دعمه، وعن مناهضته لرهاب المثليّة بشكل علنيّ وواضح. أنتم فعلًا مَنْ يثبت أنّ مجتمعنا يستحقّ وبجدارة. أنتم المصدر الوحيد للفخر والعزّة في هذه القصّة، على اختلاف مواقفكم وآرائكم.   

بالنسبة إلى المتابعين لخطابات الكراهية الصادرة عن أشخاص عديدين (مثل معاذ الخطيب واخرون)، فصراحةً كلّي رأفة تجاه المثليّين في صفوف هذا الجمهور، بعضهم لم يسمع قطّ عن وجود للمثليّين أو لمؤسّسات داعمة لهم، وقد تكون خطابات الكراهية هذه بمنزلة صدع في جدار العزلة الّذي يعيشه المثليّ، إلى أن يكتشف أنّه ليس "الشاذّ" الوحيد في هذا العالم، وأنّ العالم مليء "بالشواذّ" من أمثاله.
على الرغم من نقدي الحادّ لِما جرى، لكن أعتقد أنّ جوهر السيّدة جوليا زهر، وجوهر الأشخاص القيّمين على شركة "طحينة الأرز" جوهر طيّب، وكلّي أمل في أن يتراجعوا عن هذه الخطوة.

دروس مستفادة وأمور يجب المباشرة في العمل عليها
أوّلًا: على قيادات المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ، ورجال الأعمال في القطاع الخاصّ، التعاون والمبادرة إلى إقامة صندوق عربيّ يعمل على استيفاء شروط سلطة الضرائب ومعاييرها؛ للحصول على تأشيرة الخصم الضريبيّ، حسب البند 46 من قانون ضريبة الدخل، ليجمع هذا الصندوق رأس المال المحلّيّ من القطاع الخاصّ، وتوزيعه على مؤسّسات المجتمع المدنيّ الصغيرة، الّتي لن تستوفي بقواها الذاتيّة المعايير للحصول على هذه التأشيرة.
ثانيًا: على المؤسّسات المثليّة الفلسطينيّة تدارُك الفراغ المتروك في الحقل. وهنا، يأتي دور الجمهور الواسع الداعم والمساند لهذه المؤسّسات؛ فالدعم والمساندة والتصفيق عن بُعْد لا تكفي، والتصفيق لكلّ شيء لمجرّد أنّه صادر عن مثليّ أيضًا لا يكفي. ثمّة حاجة ماسّة إلى النقد والمساءلة حول الإنجازات الفعليّة لهذه المؤسّسات، وما أنتجته خلال 20 عامًا. إضافة إلى أنّ ثمّة حاجة إلى التفاف جماهيريّ واسع حول هذه المؤسّسات؛ لتعزيز قدرتها على تطوير آليّات تدخّل ومساندة، للإجابة عن احتياجات الأفراد المثليّين الموجودين في ضائقة، ولمساعدتها على تخطّي الفجوة، والتغلّب على التحدّيات السياسيّة الفعليّة الموجودة على أرض الواقع، الّتي تفرض على "القوس" - على سبيل المثال - خياراتها الإستراتيجيّة. وفي المقابل، على هذه المؤسّسات أن تقرّ بالضرورة والحاجة الإستراتيجيّة إلى تنوّع أنماط العمل؛ وهو ما يتطلّب منها أن تخفّف من هيمنتها، وأن تكفّ قبضتها ولسانها عن كلّ ما هو مختلف عنها.
منذ 20 عامًا مضت، شاركتُ في إقامة إحدى هذه المؤسّسات؛ لتأخذ بشكل جماعيّ ومؤسّساتيّ زمام الأمور، والعمل على إيجاد حلول واقعيّة ملائمة يمكن تحقيقها، لكن للأسف مضى 20 عامًا، وانشغلت فيها هذه المؤسّسات بأمور مهمّة عديدة، وكانت جميعها بعيدة كلّ البعد عن واقع المثليّين الفلسطينيّين الموجودين في ضائقة. وفي الواقع لم يبقَ لهؤلاء إلّا "الأجودا" ومؤسّسات أخرى شبيهة، وفي الواقع حتّى "الأجودا" وما شابهها، لا تضمن للمثليّ الفلسطينيّ الأمان وعدم الانزلاق إلى الشارع.  
وبدلًا عن هذه الصفعة المدوّية الّتي تلقيناها من "طحينة الأرز"، وهي كما قلت في البداية خطوة كان من المفروض أن نفرح ونعتزّ بها، لكنّها في الواقع كانت مؤلمة للغاية، بدلًا عنها، كنت أودّ لو أرى التفافًا من القطاع الفلسطينيّ الخاصّ، وعلى رأسهم شركة "طحينة الأرز"، ولفيف من قيادات المجتمع المدنيّ؛ لإيجاد حلول قابلة للتنفيذ، ولدعم متناسق ومتكامل يتلاءم مع احتياجات الشبيبة الفلسطينيّة الموجودة في ضائقة، على خلفيّة توجّهاتها الجنسيّة. فإلى جانب الضائقة النفسيّة، غالبًا تكون هذه الضائقة مادّيّة أيضًا؛ إذ قد يُطْرَد الفتى من البيت، أو قد يهرب منه، للابتعاد عن التنمّر والتعنيف، وقد يُحْرَم من مصروفه، أو من هاتفه، أو القسط الجامعيّ لمتابعة تعليمه، وغيرها من ضغوطات وعقوبات نفسيّة ومادّيّة تواجه المثليّين اليافعين في بداية طريقهم؛ وهو ما قد يكون له الأثر البالغ في حياتهم وفي مستقبلهم. وإلى جانب هذا، وعلى الرغم من كلّ ما قيل، فإنّ "الأجودا"، بالتأكيد ليست المكان الحريص على نشأة أبنائنا وشبابنا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق