الناصرة – دروس مستفادة من تجربة اغلاق المدينة واقتراحات عملية لحل أزمة السير فيها

نشرت في عرب 48 تجدونها هنا 

في 21 نوفمبر، وبأعقاب تصنيف الناصرة كمدينة حمراء ضمن برنامج مكافحة جائحة الكورونا، تم اغلاق المدينة امام السيارات الوافدة اليها والخارجة منها لمدة خمس أيام حتى نوفمبر 26. ومن الممكن التمعن بهذه الفترة كتجربة إنسانية حضرية غير مخطط لها
(حضري بمعنى مديني أي urban او אורבני). حيث ان التقييدات المختلفة التي فرضت على المدينة وعلى الحيز الحضري فيها لمواجهة الجائحة هي فترة تكمن فيها العديد من الدروس المستفادة وتحديدا دروس مستفادة حول الحيز الحضري وقضية أزمة السير في المدينة.

وقد أثبتت تجربة الاغلاق في المرحلة الأولى للجائحة بأن الفرضية القائلة بأن أزمة السير في الناصرة تنبع من باصات السياحة هي فرضية خاطئة حيث انقطعت السياحة عن المدينة، وتحديدا السياحة الجماعية التي تعتمد على التنقل بحافلات، لكن بقيت الأزمة على حالها. في المقابل اغلاق المدارس التي يتواجد عدد كبير منها في مركز المدينة كان له أثر أكبر على أزمة السير في البلد. ويتواجد في مركز المدينة ما لا يقل عن أربعة مدارس خاصة وشاملة. وسبب وجود هذه المدارس في مركز المدينة يعود الى تاريخ الناصرة والى نشأة وتطور المدارس فيها ولن اتوسع بهذا هنا. لكن بكون هذه المدارس بغالبيتها مدارس خاصة فإن التلاميذ القادمة اليها لا تسكن بالتحديد بالمقربة من المدرسة كما هو متبع في المدارس الرسمية، بل تأتي اليها من كافة احياء المدينة بالإضافة الى اعداد كبيرة من التلاميذ تأتي من خارج الناصرة ومن البلدات المجاورة. وتتفاقم هذه الظاهرة تحديدا بسبب الارتفاع في الاكتظاظ السكاني وأزمة السكن في البلد، فالكثير من أبناء العائلات النصراوية يختار السكن في البلدات المجاورة وفي نتسيرت عيليت تحديدا، الا انه يتابع حياته اليومية في الناصرة ويرسل ابناءه وبناته الى هذه المدارس.

عامل أخر له الأثر الكبير على ازمة السير وهو مرتبط الى حد ما بالعامل الأول هو اجتذاب الناصرة كمركز حضري في المنطقة الى العديد من الزائرين حيث ان الكم الأكبر من رواد المدينة خلال ساعات النهار ليسوا من سكان المدينة لكن يأتوا اليها لقضاء حاجات مختلفة ومتنوعة. وتحديدا في نهايات الأسبوع فأن الأزمة تنبع عن اعداد كبيرة من الزائرين المتزاحمة نحو مركز البلد. 

باعتقادي هذه هي الدروس المستفادة التي نتعلمها من فترات الاغلاق خلال الجائحة وتقيداتها المختلفة التي فرضت على حركة السير في البلد، والسؤال هو ما العمل مع هذه الدروس المستفادة؟

صراحة وللأسف الأشخاص الموجدين في مواقع اتخاذ القرار والمعارضين لهم على حد سواء عاجزين عن تقديم أفكار مبدعة وحلول جذرية لحركة السير في البلد. فعلى سبيل المثال، المهندس شريف زعبي، من الجبهة الديمقراطية المعارضة لائتلاف ناصرتي الذي يقود البلدية برئاسة علي سلام، تحدث بتاريخ 13 نوفمبر 2020 عن الموضوع في مقابلة لتلفزيون هلا، وكل ما قاله في الموضوع لا يتعدى الشعارات والتصريحات الفضفاضة والوعود المبهمة حول حلول كامنة في خطط تطوير رسمية او غيرها، ليس لأهل البلد أي اطلاع عليها او أي علاقة بها. هي ذات المخططات والحلول المطروحة منذ سنين وقد عجزت الجبهة في حينه عن تطبيقها وهي ذات الحلول الذي يصبو اليها رئيس البلدية الحالي. جميعها تأتي من أعلى الى أسفل، تفتقد مشاركة الجمهور واخذ رأيهم وملاحظاتهم عليها، وغالبا هذه المخططات الرسمية بطابعها لا تأخذ بعين الاعتبار نمط حياة السكان المحليين، خاصة في البلدات العربية حيث ان المخططين هم في الغالب غرباء ثقافيا عن هذه البلدات، كما ولا تأخذ بعين الاعتبار احتياجاتهم على ارض الواقع بل تعتمد بشكل حصري وموجه للإجابة على احتياجات المؤسسة الرسمية.

وبينما باتت عملية مشاركة الجمهور في التخطيط امر متبع وبديهي في مؤسسات التخطيط في إسرائيل، لكن في حال البلدات العربية يتم تجاهل الجمهور. ويستفيد من هذا كلا المخططين والمؤسسات الرسمية التي لها اجنداتها الخاصة في تخطيط البلدات العربية، كما ورؤساء السلطات المحلية الذين يتعاملوا مع الجمهور بشكل ابوي "عالم وخبير بكل شيء" ويفرضوا حلولهم وخياراتهم من اعلى غير مكترثين بصوت الجمهور ولا برأيه وغير أبهين باحتياجاته، فغالبًا ما يتم إرضاء هذا الجمهور بمناقصات ووظائف في البلدية ومؤسساتها بعد الانتخابات او قبلها، وبهذا ينتهي دور الجمهور وعلاقته بما تقوم به البلدية. 

إذا تمعنا في فترة الاغلاق القصيرة التي فرضت على الناصرة من 21 نوفمبر الى 26 نوفمبر. للوهلة الأولى من ينظر الى شوارع المدينة في هذه الأيام قد يعتقد انه لا يوجد اغلاق حيث سمح لسكان الناصرة بالتحرك داخل المدينة لقضاء احتياجاتهم المختلفة، لكن أغلقت المدارس كما اغلقت المدينة امام الوافدين اليها والخارجين منها. وصراحة الكثير من سكان المدينة سعدوا بهذه الفترة حيث استطاعوا قضاء حاجاتهم فيها دون ان يعلقوا 3-4 ساعات بحركة السير.  

أحيانا يبدوا لي ان الرجال عامة، وتحديدا المهندسين وتجار الناصرة والرجال المتواجدين في مواقع اتخاذ القرار، يتخذوا قرارتهم بالنسبة لحركة السير والشوارع كأطفال لعبوا وهم صغار بالسيارات وكبروا وما زالت السيارات هي الهاجس الذي يسيطر على أفكارهم. فمثلا لو قامت امرأة بتخطيط شارع فلا بد انها ستقوم بتخصيص مساحة للرصيف بحيث يكون واسع ومريح ليمكنها من جر عربة الطفل او من السير مع اطفالها بالشارع بشكل آمن دون ان ترتاب من السيارات. لكن عندما يخطط الرجال الشارع فالنتيجة هي ان الرصيف يتحول كموقف للسيارات فيتقاسم المشاة مع السيارات المساحة المخصصة لهم، وكلنا يعرف ما هي نتيجة هذا التقاسم، فالسيارات هي التي تفرض وجودها بينما تتراجع المشاة، وخصيصا النساء والأطفال.

عودة الى الكورونا والى الدروس المستفادة بالنسبة لآزمة السير في الناصرة -

ان الهدوء الذي ناله سكان الناصرة بأعقاب الاغلاق وحركة السير السالكة هم تجربة رائعة لإمكانية لحل مشكلة أزمة السير في الناصرة وتكمن هذه كما تثبت التجربة بتحديد دخول السيارات لمركز المدينة وتحديدا لشارع توفيق زياد وشارع بولس السادس بحيث يُقتصر هذا على سيارات السكان النصراويين فقط. اما بالنسبة لباقي الناس القادمين الى الناصرة من المناطق المجاورة، فيمكنهم ركن سياراتهم في مواقف عامة او خاصة بمقربة من مداخل المدينة، ومن ثم أخذ سيارة أجرة، تاكسي خاص او باص او ربما حتى خدمات نقل خاصة مثل اوبر (حاليا لا توجد في الناصرة اوبر) لتصل الى المكان الذي تقصده. حاليا لا يوجد على مداخل الناصرة او بمقربة منها مواقف كافية، لكن هذا جزء من مشروع يمكن للبلدية تنفيذه خلال فترة قصيرة نسبيًا.

وهذا الحل سوف يعود بفوائد عديدة على البلد:

أولًا، سوف يحل ازمة السير. ثانيًا سوف يوفر عمل لسائقي سيارات الأجرة وسوف يزيد من عددهم كما سيزيد من فرص العمل لسائقين اخرين من خلال خدمات نقل خاصة كالاوبر التي ذكرت أعلاه وغيرها. ثالثًا، سوف يوفر هذا الحل فرص عمل إضافية لأصحاب مواقف السيارات والعاملين فيها. رابعًا، سيشكل هذا مصدر دخل للبلدية ان بادرت هي لاقامة بعض هذه المواقف على على مداخل البلد. خامسًا، سوف تزداد حركة التجارة العامة التي سوف تخترق ما يحدها حاليا وهو "موقف لكل زبون امام مدخل المحل". سادسًا، سيعود هذا بالفائدة بالهدوء وبرغد الحياة على السكان الذين يسكنون بمركز البلد فتصبح البلد فعلا بلد يطيب العيش فيه. سابعًا، سيُقلل هذا بشكل غير مباشر من مستوى الجريمة في البلد، حيث سوف يحد من عمليات تهديد التجار بأطلاق النار عليهم والفرار من المكان بسيارة او بماتور. ثامنًا، سيطيب للناس التجول في المدينة سيرا على الاقدام دون أن تخاف من السيارات المتزاحمة ودون ان تعاني من ضجيجها (خاصة من زماميرها الغاضبة والمستاءة من حركة السير)، مما – تاسعًا – سوف يشجع السياحة العامة في البلد فتكون الناصرة بلد يطيب التنزه وقضاء نهايات الاسبوع فيه.

الحل المقترح بسيط جدا ولا يتطلب ميزانية ويوفر دخل لأهل البلد ولصندوق البلدية وممكن تطبيقه من خلال قرار بلدية فهذا من ضمن صلاحياتها، وتكلفته كما رأينا خلال فترة الاغلاق بسبب الجائحة هي سيارتين بوليس على كل مدخل من مداخل الناصرة. ممكن تطبيق هذا المقترح بشكل تدريجي او جزئي، حيث يمكن اغلاق البلد امام السيارات غير النصراوية بشكل اولي في نهايات الاسبوع فقط. ممكن ايضا اغلاق البلد امام السيارات غير النصراوية خلال ثلاث او أربع ايام في الاسبوع وتفتح في الايام الاخرى.

بالإضافة ممكن تطوير هذا المقترح الى مستويات اعلى حيث يتم دمجه مع رسوم دخول الى مركز البلد للسيارات غير النصراوية حيث تثبت كاميرات على الشوارع الرئيسية المؤدية الى مركز المدينة، شبيهة بتلك المتواجدة في شارع 6، فتسجل دخول وخروج السيارة الى مركز البلد والزمن الذي تواجدت فيها هذه السيارة في مركز المدينة وتتم جباية الرسوم بحسب الوقت المستخدم للشارع وللحيز العام. وهنا يجب التوضيح انه هذا الاجراء يجب ان يقتصر على من هم ليسوا سكان الناصرة، اما بالنسبة لسكان الناصرة فلهم الحق بالتجول والحياة في المدينة وهم قاموا بدفع ما عليهم مسبقًا من خلال رسوم الضريبة المحلية (الأرنونا). 

قد يبدوا هذا الحل وهمي او عشوائي او غريب، لكن ليس عندما نعلم على سبيل المثال ان مدينة حيفا تمنع منذ العام الماضي دخول المركبات التي تعمل على ديزل الى المدينة بهدف التخفيف من أزمة تلوث الهواء في المدينة، وأن العديد من المدن الكبرى في العالم اليوم تتبع خطط مشابهة للحد من كمية السيارات المتواجدة في مراكزها. من هذه المدن باريس وروما وميلانو واثنيا وجاكارتا وسان خوزيه وبيجين واوسلو ونيودلهي وغيرها. بعضها قام بتحديد دخول السيارات الى مركز المدينة بشكل عشوائي بحسب رقم رخصة السيارة، فالسيارات التي تحمل رقم فردي تدخل في أيام محددة والسيارات التي تحمل رقم زوجي تدخل في الأيام الأخرى، وبعضها قام بتحديد الساعات التي يسمح فيها للسيارات الخاصة الدخول الى شوارع معينة، او تحديد دخول الشاحنات في ساعات معينة. ويعرف هذا بنهج "تقنين مساحات الطرق" او "مناوبة التنقل على الطرق" وهو استراتيجية لإدارة الطلب على الشوارع والتنقل من خلالها وباتت هذه الاستراتيجية الأكثر قبولا في العالم للحد من أزمات السير في مراكز المدن.  

في الناصرة للأسف الشديد ما زالت عامة الناس والمهندسين والرجال المتواجدين في مواقع اتخاذ القرار يتحدثوا عن حل لأزمة السير من خلال انشاء جسور وشوارع إضافية هنا وهناك. صراحة يكفينا ان ننظر الى المناطق التي شيدت فيها جسور على مداخل مدن مثل حيفا وتل ابيب والقدس لنرى ان الجسر يقتل الحياة في المنطقة التي يُقام بها، حيث انه معد لخدمة السيارات حصريًا، والناصرة مدينة صغيرة لا تحتمل "قتل" المساحات القليلة الموجودة فيها من خلال تشييد جسور على مداخلها وهذا خطاء فادح خاصة وانه بات من المسلم به عالميا بأن الجسور لا تحل أزمة السير بل تزيدها سوء. فالاقتصاديين يمكنهم ان يشهدوا بأنه كلما زاد العرض يزيد الطلب، فكلما فتحت طرق أكثر واضفت شوارع أكثر سوف تزداد السيارات ايضا أكثر، بينما كلما وفرت مساحة أكبر للمتنزهين سوف يأتوا هؤلاء بأعداد أكبر، متنزهين وسواح ومتسوقين. وللواقع هناك أمور أخر في الدنيا غير السيارات يجب ان نأخذها بعين الاعتبار، الناس مثلا وما يوجه تصرفاتها. فالناس اللي تذهب الى المجمعات التجارية او تسافر الى مراكز المدن الأخرى لتتسوق في ديزنجوف او في الكرمل او في الهدار مثلا لا تبحث عن موقف للسيارة امام المحل الذي تقصده. الناس في الواقع تذهب الى المجمعات التجارية والى مراكز المدن الأخرى حتى تتمشى بها وتجربة التسوق بالنسبة الها هي جزء من "شمة هوا". فأي "شمة هوا" هي الموجودة في الناصرة للأسف الواحد ما عاد يفوتها غير للضرورة القصوى وتجربة التسوق فيها صارت عذاب.

وللنهاية رسالة قصيرة للتجار -

عزيزي التاجر النصراوي وأعزاءي التجار الاخرين في البلدات العربية الأخرى، 

انت من المفروض ان يعج محلك بالزبائن، لكنك في الواقع انت تعرقل تجارتك بذاتك حيث أنك تربط عدد الزبائن في المحل في بكل لحظة بعدد مواقف السيارات الموجودة قبال المحل وعادة تكون هذه موقفين وفي اقصى الحالات أربعة. وعندما تحفظ هذه المواقف "لزبائن المحل فقط" فأنت ترسل رسالة غير مباشرة للزبون بانه "إذا ما في موقف امام المحل تابع السير وعود في موعد اخر". عزيزي التاجر انت تتغاضى عن عدة أمور في هذه العادة الخاطئة، وهي: أولًا انت تحفظ هذا الموقف لزبائن المحل كل ساعات النهار لكن في الواقع كل متجر يجتذب شريحة محددة من الناس تأتي الى المحل بوتيرة مختلفة في ساعات مختلفة، فالمخابز تجذب الكم الأكبر من الزبائن في ساعات الصباح، ومحلات الملابس في نهاية الأسبوع وفي ساعات بعض الظهر، بعضها في ساعات ما قبل الظهر وبعضها الاخر على حلة العمال او بعد انتهاء دوام الموظفات او بعد حلة المدارس وهكذا. عندما تحفظ الموقف لزبائن محلك فقط ولا تتقاسم هذا الموقف مع التجار الأخيرين في كثير من الأحيان يبقى هذا الموقف غير مستعمل لأنك تحفظه خلال كل النهار لزبائنك فقط بينما غالبية زبائنك لا يأتوا الى المحل الا في ساعات معينة. والنتيجة في الواقع وللأسف هي ان التجار بذاتها هي من تعيق اعمال بعضها البعض. وإذا نظرنا الى بعض المحلات الموجودة في الناصرة وأحيانا تقع هذه على نفس الشارع (ولن اذكر امثلة حتى ما نصيب الناس بالعين) ترى ان المحل اللذي لا يوجد امامه موقف لسيارات الزبائن ما بفضى وما فيه محل تحط اجرك اما المتجر الذي يحجز الموقف للزبائن فعدد الزبائن فيه قليل، وهذا عزيزي التاجر لأنك تعوّد الزبون على "الدلال" فإن لم يجد موقف سيعود بوقت اخر، او لا يعود.  

على أمل أن تكون رسالتي واضحة وان تلقى آذان صاغية بين التجار وبين متخذي القرار.

============ 
الكاتبة - نسرين مزاوي، باحثة في علوم الإنسان، كتبت رسالة الماجستير حول "التحولات الثقافية في الحيز الحضري في مدينة الناصرة". نشرَ جزء من هذه الرسالة في المجلة العالمية لدراسات الشرق الأوسط International Journal of Middle East Studies، وقريبا سيصدر جزء اخر منها في كتاب بعنوان المدن الفلسطينية صادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق