مقاربة لا سلطوية للوضع الفلسطيني وإعادة بناء المجتمع من خلال تنظيم المجتمعات المحلية

نشرت في جدلية، تجدونها هنا 

الحالة الفلسطينية اليوم، تسودها أجواء من التشتت و
ضبابية المستقبل الفلسطيني. ففي أجواء تشييع مشروع دولة فلسطينية في الضفة وغزة على أساس معاهدة أوسلو تعود للحياة أسئلة جوهرية حول فلسطين الجغرافية وفلسطين المجتمع وحول المشروع الجماعي الوطني العام. وبما أن مشروع الدولة بشكل أو بآخر بات مستعصيًا، وحتى وإن نجح فإنه لن يكون تحرريًا، فعلى المشروع الفلسطيني الوطني أن يتحول لمشروع بناء مجتمع فلسطيني لكافة الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم بعيدًا عن وبدون أي علاقة بمشروع الدولة القومية. وليس هذا الطرح نفيًا لمشروع الدولة أي كان، إلا أنه لا يعول عليه.

(1)

طالما تساءلت حول نجاعة التحرر من خلال مشروع قومي يتمثل بإقامة دولة قومية، خاصة في زمن بات فيه من الواضح فشل نموذج الدولة القومية بالإجابة على العديد من القضايا الكونية والوجودية. إضافة إلى أن غالبية الدول القومية في العالم باستثناء بعض الدول الإسكندنافية، هي دول قامعة توجه عنفها نحو الداخل لإخضاع مواطنيها لنمط سياسي واقتصادي معين. وكثيرا ما قيل لي، في حينه كناشطة ناشئة في مطلع العشرينات من عمرها، أي قبل عقدين تقريبًا، إنه لا بد للتحرر القومي أن يسبق اشكال التحرر الأخرى. ولطالما جادلت هذه الفرضية حيث ادعيت بأنه لا تراتبية بين أنواع التحرر فحريتي الشخصية تنبثق من حرية شعبي وحرية شعبي لا تنفصل عن حريتي.

وربما قد يكون من حسن حظنا فشل مشروع أوسلو وفشل مشروع الدولة الفلسطينية التي كان من المفروض أن تقوم على أساسه، حيث أن النظام العالمي الحالي يفرغ الدول القومية من جوهرها ويحولها إلى ماكينة عنف وبيروقراطية. ولا يوجد أي سبب يجعلنا نعتقد أن الدولة الفلسطينية سوف تكون مختلفة في نهجها عن باقي الدول الأخرى. بالإضافة، إذا تأملنا بالتحديد الدول القومية التي قامت بعد استعمار، نجدها بغالبيتها أنظمة مستبدة وفاسدة، وبما أن هذه ظاهرة عالمية عامة فلا بد أن نسأل ما هي هذه المنظومة العالمية التي تثمر استبدادا وفسادا في دول العالم الجنوبي ونزاهة وأخلاقا في دول العالم الشمالي؟ وهل هناك أي فرصة لدولة فلسطينية أن تكون داخل هذا النظام العالمي وأن تخالف قواعده؟ وبما أن مشروع الدولة بشكل أو بآخر بات مستعصيًا، وحتى وإن نجح فإنه لن يكون تحرريًا، فعلى المشروع الفلسطيني الوطني أن يتحول 
لمشروع بناء مجتمع بعيدًا عن وبدون أي علاقة بمشروع الدولة القومية. وليس هذا الطرح نفيًا لمشروع الدولة أي كان، إلا أنه لا يعول عليه. 

(2) 

في تلك السنوات – السنوات الأولى التي لحقت الانتفاضة الثانية - كنتُ قد انخرطتُ في صفوف مجموعات نسوية وأخرى سياسية لا سلطوية مارست العمل المباشر ضد الاحتلال وضد بناء جدار الفصل العنصري. وكان ما قد جذبني إلى هذه المجموعات هو مبدأ رفض ديمقراطية الأغلبية
[1] واتباع مبدأ الديمقراطية المباشرة واتخاذ القرارات بالتوافق والإجماع. ففي المركز النسوي في حيفا، على سبيل المثال، يجتمع ال"كولكتيف" شهريًا، وفي هذه الاجتماعات تتم مناقشة الأفكار المبدئية والمبادرات والاقتراحات الجديدة. لفترة طويلة لم أشارك في اجتماعات "الكولكتيف" فقد بدت لي جافة ومملة واقتصر نشاطي على المشاركة في النشاطات العملية للمركز إن كانت مؤتمرات، ورشات عمل، احتفالات، مظاهرات وغيرها. لاحقًا أدركتُ أن "الكولكتيف" هو المكان الذي تُتخذ فيه القرارات ويتم هذا بالتوافق والإجماع، مما يعني أن النقاش قد يستمر ويطول لعدة ساعات أو حتى لعدة لقاءات. 


كذلك الأمر في المجموعة السياسية "تعايش" وقد التحقت بها في حينه بسبب النشاط المباشر ضد الجدار. وفي الاجتماع الأول الذي شاركت فيه، بعد أكثر من ثلاث ساعات على النقاش، سأل أحدهم إن كان الجميع موافقين على الاقتراح، وكانت قد جلست إلى جانبي ناشطة تعرفتُ عليها في بداية الاجتماع وقد حثتني على المشاركة والإعلان عن موقفي: موافقة، معارضة أو ممتنعة. صراحة لقد خجلت من إبداء أي موقف خاصة وإنه أول حضور لي في المجموعة فامتنعت. واتضح لي فيما بعد أنه في حال ابديت أنا أو أي مشارك آخر اعتراضاً على القرار فإن النقاش كان سوف يستمر في تلك الليلة الى أن يُعدل الاقتراح إلى شكل وصيغة يوافق عليهما الجميع. وقد يستمر النقاش في قضايا معينة ساعات وأحيانا أياما تعمل من خلالها المجموعة على تطوير اقتراح ينال الإجماع. أما الحالات المستعصية فإنها تؤدي إلى أزمة داخل المجموعة وأحيانا إلى انشقاق، وبما أن المجموعة تحاول تفادي الانشقاق وتسعى للحفاظ على أعضائها يتم التعامل مع الاعتراضات بقدر من المسؤولية ويتم بذل جهد كبير للتوصل إلى توافق واجماع. فيما بعد علمت بأن هذا ما يسمى بالديمقراطية المباشرة، لكل عضو فيها حق الفيتو، يستطيع من خلاله تطوير عمل المجموعة أو تعطيله، ولا توجد هرمية بين المشاركين ولا أفضلية للمشاركين الدائمين على المشاركين الجدد أو للخبراء على الأقل خبرة. ويتبع هذا النهج في المجموعات النسوية الراديكالية - أي الجذرية، وليس "المتطرفة" كما تترجم بشكل خاطئ ومسيئ للفكرة – وأيضًا في المجموعات اللاسلطوية، أي الأناركية، وتترجم هذه أحيانا الى العربية بشكل خاطئ كـ"فوضوية" وهذه أيضًا ترجمة مسيئة للفكرة حيث أنه لا يوجد أي فوضى في اللاهرمية. 

مضت السنوات وتفرقت مجموعة تعايش الشمال، تلك التي نشطتُ في صفوفها. أما المجموعة النسوية في حيفا والتي بدأت نشاطها في سنوات السبعينيات المتأخرة وأسست لاحقًا في العام 1983 المركز النسوي في حيفا وانبثقت عنها العديد من النشاطات والمبادرات الاجتماعية فما زالت تعمل إلى اليوم. والمثير في هذه المجموعة حقًا هو قدرتها على بناء مجتمع محلي (
community) والمحافظة عليه بشكل نشط وفعال ومثمر لفترة طويلة نسبيًا، تعدت حاليًا الأربعة عقود. وتهتم الناشطات في هذه المجموعة "بألا تكون مشاريعها أكبر منها"، وهذا هو عمليًا السبب بأن العديد من المؤسسات النسوية الرائدة في مجالها بدأت كمبادرة صغيرة في المركز النسوي الذي يعمل بمثابة حاضنة فكرية وإيديولوجية. لكن عندما تنمو هذه المشاريع وتكبر تستقل عن المجموعة وعن المركز بحيث لا تشل نشاطه ولا تعيق تطور أفكار ومبادرات إضافية. ويعمل المركز النسوي بالاعتماد التام على النشاط التطوعي، وعادة ما يقتصر الطاقم على ثلاث أشخاص بوظائف جزئية: مركزة عامة، ومجندة موارد، ومحاسبة. ويرفض المركز ميزانيات التمويل الكبيرة. وفي حين تعاني العديد من الجمعيات والمؤسسات غير الحكومية من التبعية الاقتصادية ومن ضيق وصعوبة في تجاوز الأزمات الاقتصادية، إلا أن المركز النسوي في حيفا يزداد نشاطه خلال الأزمات الاقتصادية، فكمية الأعضاء والمتطوعات المعنيات بوجود الـcommunity  لذاتها وليس كمكان عمل أو كمصدر دخل هي فائقة، والدور الذي تلعبه هذه الـcommunity   بحياة كل المشاركات فيها كما وفي حياة مدينة حيفا والنساء عامة كبيرٌ جدا.

بالإضافة إلى هاتين التجربتين شاركت خلال العشرين سنة الماضية بثلاث مبادرات اجتماعية إضافية كان من المفروض أن تتطور كمجتمع محلي، وكنتُ أود لو تعمل هذه بشكل لا هرمي ولا سلطوي وأن تتبع مبدأ العمل التوافقي والديمقراطية المباشرة، لكن للأسف ثلاثتها فشلت في ذلك. فالمبادرة الأولى عملت لبضع سنوات ثم تحولت إلى جمعية بدون أعضاء تعيش على أموال المانحين. الثانية تبعثرت صفوفها بعد أن طغت الأجندات والصراعات الحزبية على أجندتها الداخلية. والثالثة ضربت بعرض الحائط فكرة التوافق والإجماع في مرحلة مبكرة جدًا من بداية عملها ويتنافس أعضائها اليوم على مناصب في المؤسسة من خلال حشد جمهور افتراضي وجمع أصوات افتراضية في عملية انتخابات نصف افتراضية لأعضاء نصفهم افتراضيين.

جاءت هذه المقدمة كي أقول من خلالها إنه من الممكن إنشاء مجتمعات محلية حقيقية ومن الممكن تنظيم المجتمع والعمل بشكل عادل لا يعتمد على القوة أو على قمع الأقليات، لكن يتطلب هذا الأمر جهدًا كبيرًا واختيارًا واعيًا لمبدأ التوافق والإجماع والالتزام به كمصلحة عامة إضافة إلى الترفع عن المطامع في المكاسب الشخصية المادية أو المهنية وتفضيل الصالح العام على التطلعات الفردية والمصلحة الخاصة. وباعتقادي أن سر نجاح حركات نسوية تحديدًا مقارنة مع مجموعات أخرى، بإنشاء مجموعات محلية مستدامة كامن بالتضامن الجوهري الموجد بين النساء في هذه المجموعات النابع من تجربة جندرية مشتركة بمواجهة القمع والاضطهاد على كافة مستوياته. 

(3)

لا تقتصر الديمقراطية المباشرة ومبدأ التوافق والإجماع على المجموعات النسوية ولا على مجتمعات ذات ثقافة غربية كما قد يفترض البعض. فلو نظرنا حولنا سنجد أن العديد من القرارات اليومية التي نتخذها في نطاق العائلة الصغيرة أو الموسعة كما وفي مجموعات الأصدقاء هي قرارات تعتمد على التوافق والإجماع. ويصعب عليّ أن أتذكر ولو حالة واحدة قام بها أفراد من عائلتي الموسعة بالتصويت الديمقراطي على قرار معين، إن كان حول الاحتفال المشترك بالعيد أو حول تقسيم الميراث والأملاك المشتركة. كلها تتم بالإجماع والتوافق أو "بالزعل" ونتيجته طبعا الخلاف والانشقاق. كذلك بالنسبة للأصدقاء، فلا نقوم أبدًا بالتصويت حول المطعم الذي سنلتقي به مثلا، فإما أن نختار مكاناً ملائماً للجميع وإما أن ينسحب من لا يروق له خيار المجموعة. وعلى المجموعة أن تقرر ما هو الأهم لها. إرضاء الجميع من خلال بعض التنازلات أم الإصرار على خيار معين حتى وإن كان ثمنه انسحاب بعض الأعضاء أو الانشقاق؟ وقد يحدث هذا فعلا حول أمور جوهرية للمجموعة.

منذ أيام تجادلتُ مع إحدى الصديقات من المركز النسوي بأن تجربتي العائلية هي في الواقع أكثر ديمقراطية من تجربتي النسوية. فبينما أتماهى في المركز النسوي وأتفاعل بشكل جيد مع مجموعة من النساء اخترتها مسبقا وهم أقرب لي فكريًا، في العائلة البيولوجية التنوع الفكري والايديولوجي بين افرادها هو أكبر، والعمل على تقبل الآخر والمختلف داخل العائلة يحتاج إلى مجهود أكبر. والجهد المبذول من أجل التوصل إلى توافق وإجماع في العائلة هو أيضا أكبر ويحتاج إلى مثابرة أكثر. ولا أغفل عن واقع المجموعات العائلية التي عادة ما يقع فيها ثقل هذا الالتزام على النساء أكثر منه على الرجال، فتقدم النساء التنازلات أكثر من الرجال. لكن كأي مجموعة أخرى، قد يؤدي الثقل المتزايد على الأفراد الى انشقاق – أي إلى خلافات عائلية أو ربما طلاق - وإن افترضنا أن كافة أفراد العائلة أحرار ومستقلون يشاركون طوعياً في العائلة البيولوجية كما هنّ النساء المشاركات في المركز النسوي في حيفا أو في مجموعة الأصدقاء، فسوف تتمكن النساء في المجموعة العائلية من تحديد مدى التنازلات التي تستطيع التعايش معها ومتى تختار الانسحاب من المجموعة والاستقلال عنها. وإن لم تتمكن النساء من ذلك فليس هذا لفشل الطريقة أو لعدم نجاعتها إنما بسبب غياب الاستقلالية الاقتصادية والخيار الحر للأفراد. وطبعا أعلم أن حال 80% من النساء العربيات في العائلة بل وربما 90% منهن لسن مستقلات وليس لديهن الحريّة في الخيارات، لكن هذا لا يقوض 
فكرة الجوهر الإنساني للديمقراطية المباشرة، حيث أننا كبشر سنسعى عادة إلى التوافق والإجماع وهذه هي الحالة الإنسانية الطبيعية وليس التصويت وقمع الأقليات. 

(4)

من هنا أود الانتقال إلى الحالة الفلسطينية اليوم، التي تسودها أجواء من التشتت و
ضبابية المستقبل الفلسطيني. ففي أجواء تشييع مشروع دولة فلسطينية في الضفة وغزة على أساس معاهدة أوسلو - وقد يكون نجاح هذا المشروع للبعض بمثابة استكمال وتتميم للنكبة - تعود للحياة أسئلة جوهرية حول فلسطين الجغرافية وفلسطين المجتمع وحول المشروع الجماعي الوطني العام وعلى هذا أن يشمل إضافة الى فلسطينيي الضفة وغزة والقدس، فلسطينيي ال48 وفلسطينيي المخيمات وفلسطينيي الشتات أيضًا. وفي ظل نظام عالمي يفرغ الدول القومية من جوهرها ويحولها إلى ماكينة عنف وبيروقراطية في خدمة هذا النظام، على المشروع الفلسطيني التحرري أن يكون مشروع بناء مجتمع شامل لكافة الفلسطينيين أينما كانوا وهذا أسمى وأفضل وأدق من مشروع دولة قومية. ولا يحتاج تنفيذه إلى معاهدات سلام أو إلى قرارات سياسية بل إلى إرادة شعب.

فالنظام العالمي الحالي يقوم على ثالوث الرأسمالية والدولة القومية (كجهاز قمع) وديمقراطية الأغلبية. واتفاقية اوسلو كانت قد صممت المشروع الفلسطيني على هيئة سلطة لدولة - لم يقصد لها أحدٌ فعلا أن تكون - بناء على هذا النموذج. ومن خلال هذه الاتفاقية أُدخِلَت السلطة الفلسطينية إلى النظام العالمي من أوسع ابوابه لتمارس بيروقراطيتها وعنفها ضد الفلسطينيين كما لو كانت دولة كباقي الدول، تؤدي دورها في خدمة الاقتصاد العالمي ورأس المال.

ويوجد إجماع عام على أن الإنجاز الحقيقي والأهم لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها (1964) إلى اليوم هو إعادة إحياء الهوية الفلسطينية. لكن في ظل الظروف المحلية والعالمية الراهنة نبقى مع السؤال: الفلسطينيين إلى أين؟ وما هي السُبل التي سوف نسلكها الآن نحو التحرر؟ وما هو التحرر الذي نصبو إليه؟ وللخوض في هذا المضمار علينا أولا 
التحرر من فكرة الحرية الفردية المعتمدة على الاستهلاك، التي جاءتنا من خلال النظام الرأسمالي ذاته، وعلينا إعادة بناء مفهوم الحرية من جديد، حرية تمكننا من تحقيق الذات بعيدًا عن التسليع وثقافة الاستهلاك. بالإضافة علينا مواجهة الواقع: الأفراد غير قائمين بحد ذاتهم. البشر مخلوقات اجتماعية لا يمكنها العيش بشكل مستقل عن الآخرين، ونموذج الحرية الفرداني غير واقعي وهو مجرد حالة اغتراب عن المحيط البشري والاجتماعي والمادي المحيط بنا. وفي الواقع نحن لسنا أحراراً ولا يمكن لنا أن نكون، فحيواتنا جميعا متعلقة بالخباز وبالميكانيكي وبالطبيب وبالمهندس وبعامل النظافة وغيرهم، وكل ما نقوم به بوهم أن هذه هي الحرية وأن هذا هو التحرر ما هو إلا تحايل على مدى الاغتراب عن أعضاء المجموعة التي نعيش فيها وتلاعب بمدى التكاثف والتضامن الاجتماعي والتكافل الاقتصادي الذي يجمع، أو قد يجمع، بيننا. هذا الاغتراب غير الطبيعي والمفتعل لا يمكن تحقيقه بدون وجود دولة تنوب عن الأفراد بتنظيم وإدارة علاقاتهم الاجتماعية وتحولهم خلال هذه العملية إلى عمال، موظفين إداريين ومُستهلكين، وتقمعهم في سبيل تطوير السوق ورأس المال. بالإضافة علينا أيضًا التخلي عن فكرة أن مواطني الدول القومية الديمقراطية هم أحرار. فليحاول أحد هؤلاء المواطنين مثلًا عبور الحدود الدولية بدون جواز سفر كي يثبت حريته، أو ليتأخر عن دفع ضرائبه، أو ليرفض الخدمة العسكرية الإلزامية إن وجدت. هذا ولم نتحدث بعد عن الإحتجاج على النظام القائم والاعتراض عليه أو محاولة تغييره، من أجل هذا تقوم هذه الدول بإعداد قوات من الشرطة مدججة بالأسلحة كما لوٍ كانت جيوشًا. من هنا فأن الحرية الفردية هي حرية متخيلة وغير حقيقية، ففي الواقع كلنا منضبطين بشكل أو بآخر من خلال نظام اجتماعي يجمعنا مع أفراد آخرين بنظام حياة مشترك، والسؤال هو من يصوغ ويفرض هذا النظام ومن يقوم بضبطه؟

بالإضافة، لا يمكن لنا أن نغفل عن أن 
نضال التحرر هو نضال كوني عالمي، فالتحرر من كافة أشكال القمع والاضطهاد الذي يسعى إليه الفلسطيني هو ذات التحرر الذي تسعى إليه النساء، ويسعى إليه الأميركيون الأفارقة، ويسعى إليه سكان الدول المستضعفة، هو ذات التحرر الذي تسعى إليه الأقليات الدينية والعرقية والثقافية والجنسية، وتسعى إليه جماعات السكان الأصليين في الأمازون وفي مدغشقر وفي كمبوديا وغيرها. ولا يقتصر هذا التحرر على التحرر من الاستعمار بل يشمل التحرر من وطأة الرأسمالية والدول القومية ومن حالة الاغتراب القسري التي تفرضها هذه علينا وتجعلنا نحيا حيواتنا كأننا مخلوقات فضائية للآخر.ٍ

وصراحة 
ليس هناك أي طريق للخروج من الرأسمالية، وأي محاولة لفعل ذلك ستكون محفوفة بالمخاطر العديدة التي قد تؤول بلمح البصر إلى كوارث وأزمات إنسانية. يكفينا أن ننظر إلى ما يحدث اليوم في المجتمعات التي تعطل نظامها الاقتصادي جزئيًا بسبب جائحة الكورونا. فحتى وإن رفضنا النظام القائم رفضًا قاطعًا إلا أن التغيير لا يمكن أن يتم بخطوة واحدة كبيرة وحادة نحو الأفضل إنما بشكل تدريجي وطويل الأمد. كذلك لا بد أيضا أن نكون واقعيين وأن نقرّ أن الكثير من الابتكارات الناجحة في العالم اليوم والتي تعود بالفائدة علينا جميعا تحققت بفضل السوق وبفضل النظام الرأسمالي وبفضل الدول القومية ولم تكن هذه لتحصل بدونها. في ذات الوقت لا يمكننا التغافل عن وحشية هذا النظام ولا-إنسانيته وعن غياب العدالة الاجتماعية عنه، ويجب علينا أن نسعى لتحسينه وتغييره لتسود فيه العدالة الاجتماعية الغائبة عنه اليوم كما ويجب علينا السعي التدريجي للتخفيف من وطأته. هذا كله يتم أولا من خلال تنظيم المجتمعات المحلية فهي خط المواجهة الأول في هذا المسار ومن خلالها نقوّض فعليًا وبشكل مباشر عمليات الاغتراب القسرية المفروضة علينا دون أن ننتظر أي معاهدة سلام أو أي قرار سياسي لأي سلطة أو حزب أو فصيل. 

(5)

من هنا ومن خلال الواقع الذي فُرِض على الفلسطينيين، فإن المستقبل الفلسطيني يكمن في إعادة بناء المجتمع الفلسطيني من خلال 
تنظيم المجتمعات المحلية وبناء العلاقات بين كافة أجزاء المجتمع الفلسطيني بالاعتماد على التضامن الاجتماعي والتكافل الاقتصادي والديمقراطية المباشرة، إلى جانب حميمية اللقاء الداعم والحاوي والمساند، بعيدا عن النعرات الجهوية وعن التحزبات أو الشللية. ولا أدعو هنا إلى تبني اللا-سلطوية كأيديولوجيا، لكن كعدسة ننظر من خلالها إلى ما يفرضه علينا الحال الفلسطيني، آخذين بعين الاعتبار أيضا أن بعض المنظرين اللا-سلطويين، وهو التيار الثالث بين الرأسمالية والاشتراكية، يدّعي أن مستقبل العالم هو مستقبل بدون دول، وللواقع فإن العالم لا يقف على أبواب هذا المستقبل بل إنه بات يخطو خطواته الأولى فيه.

(6)

ما هي أشكال المجتمعات المحلية التي قد نتنظم من خلالها؟

أولا، من الطبيعي جدا أن المجتمعات المحلية الفلسطينية التي تحدت وانتفضت وواجهت الاحتلال الإسرائيلي على مدار عقود وما زالت، منظمة أكثر بكثير مما نعرف ومما قد يخطر لنا ببال. وليست هذه دعوة إلى تنظيم المجتمعات المحلية بقدر ما هي دعوة إلى التمعن في هذه العمليات وفي الإمكانيات الكامنة فيها وفي العمل من خلالها 
كخيار استراتيجي فلسطيني جامع. ويجب ألا يقتصر هذا الخيار على عمل البعض من خلال فصائل وأحزاب سياسية أو مؤسسات غير حكومية وغيرها بل أن يشمل كافة الفلسطينيين بكل أماكن تواجدهم انطلاقا من أن الإنسان كإنسان لا يمكن له أن يعيش إلا من خلال مجتمعات محلية. وعلينا أن نرى بهذه المجتمعات المبنية على التكافل والتضامن والتواصل فيما بينها هدفًا بحد ذاتها فهي المجتمع بذاته ومن خلالها يتم بناؤه والحفاظ عليه.

ثانيا، لا بد لنا من الإقرار بأن المشروع الفلسطيني هو أكبر من مشروع دولة، وبعيدا عن سؤال الدولة، ما يجمعنا كفلسطينيين هو اللغة والثقافة والتاريخ وانتماؤنا لبعضنا البعض وللمنطقة.

ومن المهم أن تقوم كل مجموعة محلية بتحديد نهج وأهداف عينية تجمعها كما ومن المهم أن تكون لها مناسبات وطقوس ورموز ونشاطات لها وقع ومعنى، تُبقي ذكريات جماعية راسخة في قلوب ونفوس المشاركين فيها. ومن الضروري لهذه المجموعات أن تنظم ذاتها بشكل تطوعي وتمول ذاتها بالاعتماد الأكبر على مواردها الذاتية بما فيها مواردها البشرية، والاعتماد الأقل على تمويل سلطوي كما هو حال ال
NGOs، حيث أن هذا التمويل يحول العمل المجتمعي إلى مهنة ويضُر بروح الانتماء والعمل الجماعي، كما وينمي التزاما ماديا على شكل مشاريع ذات أهداف عينية مادية وملموسة (SMART) وتَستبدِل هذه الانتماء والالتزام الأخلاقي للمجموعة ولأعضائها. وقد تكون هذه المجموعات مجموعات فنية، ثقافية، نقابات مهنية، اتحادات، نواد، لجان طلاب، لجان أحياء لكنها أيضا عائلات، وطوائف، وعشائر. وقد تبدو هذه الأمور بديهية إلا أننا يجب أن نضعها صوب أعيننا وألا نغفل عنها كأهداف استراتيجية ووطنية.

وقد يبدو للبعض أن التنظيم بشكل عائلات وعشائر وطوائف قد يكون "رجعياً" و"محافظاً"، لكن علينا أن نتذكر أن مفهوم الحرية الفردية هو مفهومٌ مجردٌ وغير حقيقي، وأنه لا يمكننا رفض العشيرة لكونها عشيرة أو العائلة لكونها عائلة، فهذه هي الأُطُر الاجتماعية الأولية في بناء المجتمع ودورها في تحرر أفرادها أو قمعهم مشابه لدور المجموعات الأخرى في قمع وتحرر أفرادها. وكأي مجموعة أخرى قد تكون هذه "رجعية" أو "محافظة" أو "قامعة" كما قد تكون "تحررية" و"داعمة" و"متقبلة" و"متسامحة" ويعتمد هذا على خيار المجموعة ومدى تسامحها وتقبلها للأفراد المختلفين فيها. وواجب علينا أن نرفض الرجعية وأن نرفض الانغلاق وأن نرفض العنف والتعصب، وهذه ليست حصرية على العائلات والعشائر بل قد نجدها في أي مجموعة ويجب علينا أن نرفضها في كل مكان. لكن لا يمكننا رفض الأطُر الاجتماعية الأولية في المجتمع، فربما لو لم تنهار هذه البُنى الأساسية للمجتمع الفلسطيني في الداخل لما استبدت فيه الجريمة. وقد يكون هناك خلاف وانشقاق داخل هذه المجموعات الأولية وهذا طبيعي جدا، وعلى المجتمعات المحلية عامة أن تطور قدرة على دعم واحتواء الأفراد المنشقين عن مجموعاتهم الأولية التي لم تستطع احتواءهم واحترام اختلافهم، وفي الغالب سوف يكون هؤلاء من النساء ومن أقليات مقموعة أخرى.

هذا ما يجب أن نضعه صوب أعيننا حاليا ونحن نغلق الباب خلفنا على مشروع أوسلو وننطلق في طريق جديد غير واضح المعالم والأفق. 
ولا أطمح من خلال هذه الطرح إلى طرح سياسي بالمعنى العادي والمألوف للسياسي، وعادة ما يكون لهذا منظور جماعي وشامل منذ بدايته، بل إلى توجه سياسي مختلف يبدأ من الأفراد ومن المجتمعات المحلية وينمو منها الى أنساق اجتماعية ومؤسسات ثقافية تحررية. قد يقول البعض إن الدولة مهمة ولا يمكن بدونها، وقد يكون هذا صحيحاً. لكن حاليًا لا توجد دولة، فهل نقف مكتوفي الأيدي حتى الضياع؟ بالإضافة، في حال وجدت دولة لا يمكن الجزم بأنها سوف تتوافق مع كل ما يريد ه المجتمع. قد تعمل الدولة على إخضاع المجتمع للسوق ولسياسات إمبريالية، وهذا ما يحدث في معظم الدول حاليًا، لكن بوجود مجتمعات محلية منظمة وقوية قد نتمكن من الوصول إلى توازن معين. طبعًا كل هذا منوط بأن نضع جانبا فكرة الحرية الليبرالية الفردية ونموذج التحرر وتحقيق الذات من خلال الاستهلاك الفردي والمادي المنوط بالنفور من البيئة ومن المجتمع وأن نعيد النظر في مفاهيم الحرية والتحرر وأن نعود للبديهيات حول مفاهيم الفرح والسعادة والحياة والقيمة وسبل تحقيقها.



[1] في ديمقراطية الأغلبية تتخذ القرارات بالتصويت وبهذا تفرض الأغلبية قرارها على الأقلية وغالبا ما تكون هذه القرارات مجحفة وغير عادلة في حق الأقلية، ويمكن أن نرى بها عملية استبداد من قبل الأغلبية لا تخلو من العنف في فرض القرار من خلال قوة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق