رسالة توضيح، ماذا أعنى بتعليق دراستي في الجامعة ولماذا قمتُ بذلك؟

 
في الثاني عشر من آذار 2024، قامت الجامعة العبرية بتعليق عمل بروفيسور نادرة شلهوب-كيفوركيان بسبب انتقادها للحرب. جوابي على هذه الخطوة كان بالمبادرة إلى تعليق دراستي في برنامج الدكتوراه في قسم علوم الإنسان في جامعة حيفا. كذلك أعربتُ عن استعدادي التام لإعادة المنحة الدراسية التي تلقيتها من قبل جامعة حيفا لدعم معيشتي خلال الأربع سنوات السابقة.

في هذه الرسالة أود أولًا توضيح معنى "تعليق الدراسة"، فعادةً تبادر المؤسسة الى تعليق عمل الموظفين أو العاملين أو الطلاب ولا يقوم طالب بشكل فردي ومستقل بالإعلان عن تعليق دراسته. ثانيًا، اود الإسهاب في أسباب هذه الخطوة الاحتجاجية. وللتنويه، هذه الخطوة ليست خطوة تضامنية مع بروفيسور شلهوب-كيفوركيان، كما قد يفترض البعض، بل هي احتجاج على تدهور ظروف الدراسة والبحث العلمي في الأكاديمية الإسرائيلية وعلى عملية اغتيال مباشرة للحرية الأكاديمية التي تعتبر أساسًا جوهريًا للنزاهة العلمية.


ماذا أعنى بتعليق دراستي؟

جوابي على تعليق عمل بروفيسور شلهوب-كيفوركيان كان الرد بالمثل وهو تعليق دراستي. عمليًا هذه هي الخطوة العملية الوحيدة المؤثرة التي يمكنني من خلالها التعبير عن رفضي واحتجاجي على هذا الوضع. قدرة هذه الخطوة الفردية والمستقلة على التأثير نابعة من العلاقة التكافلية الموجودة بين الطالب والجامعة. حيث يستفيد الطالب من العلم والشهادات التي يحصل عليها، في حين تستفيد الجامعة من الاقبال عليها ورفع اسم المؤسسة وشهرتها من خلال نجاح طلابها وتميزهم، هذا بالإضافة الى المردود المالي المباشر الذي تتلقاه الجامعة من الحكومة مقابل كل طالب يلتحق بصفوفها إضافة إلى الدعم المالي الخارجي الذي يأتي من مانحين وممولين دوليين.

بالنسبة للطلاب العرب، يجب أن ندرك أن الجامعة تستفيد من وجود الطلاب العرب بشكل إضافي، حيث تسوق ذاتها كمؤسسة متسامحة تهتم بالأقليات وتشجع "التنوع الاجتماعي" وما شابهه من تواصيف مستحبة على أصدقاء الجامعة والممولين الدوليين وعلى مؤشرات الإدماج الثقافي والاقتصادي للأقليات في سوق العمل بشكل عام، وفي صفوف المؤسسات الأكاديمية تحديداً. وبطبيعة الحال، يكون هذا المردود أكبر عند يتعلق الأمر بطلاب الدراسات العليا، خاصة أولئك الذين يقومون بأبحاث علمية وينشرون مقالات في مجالات علمية مُحكّمة، حيث تتباهى الجامعات بعملية النشر ذاتها وبكميتها، مما يساهم في تعزيز مكانتها الأكاديمية على المستوى العالمي ويرفع مكانتها في مؤشرات التدريج الأكاديمية العالمية.

تعليق تعليمي الأكاديمي يعني: الامتناع عن حضور المحاضرات، الامتناع عن تقديم الوظائف، الامتناع عن المشاركة في نشاطات القسم أو في أي نشاط جامعي، سواء داخل الحرم الجامعي أو خارجه. كما يتضمن هذا، الامتناع عن تجديد دراستي وعن التسجيل للعام الدراسي المُقبل، بما في ذلك الامتناع عن تقديم طلب لتوقيف الدراسة المؤقت (الذي يحفظ للطالب حق العودة الى الدراسة في فترة زمنية محددة)، والامتناع عن تقديم طلب لتمديد فترة الدراسة. في هذه الظروف، قد أعُتبر طالبة غير ملتزمة بمهامها التعليمية، وبناء على ذلك، يحق للجامعة المطالبة بإعادة ما قُدم لي من دعم مالي خلال فترة الدراسة، وفي هذه الحالة أنا على اتم الاستعداد لإعادة المنحة الدراسية بأكملها.


على ماذا أحتج؟

أحتج على اغتيال الحرية الأكاديمية، وحرية البحث العلمي، وحرية تعبير الباحث عن ملاحظاته وتقييماته وبصيرته المتعلقة بالمواضيع التي انكب على دراستها، فهذه الأمور كلها تصب في جوهر عملية إنتاج المعرفة، تهددها وتستأصل كل ما هو مفيد فيها.

تعتبر المؤسسات الأكاديمية في جوهرها مؤسسات تقوم على عملية إنتاج المعرفة، وهذه العملية هي أساس التقدم والتنور الحضاري. فحيث اغتيل العلماء والمكتشفون والمفكرون سادت الظُلمة، وهذا على سبيل المثال ما ميز أوروبا في العصور الوسطى، حيث قامت المؤسسات السلطوية، سواء المدنية أو الكنسية، باغتيال واضطهاد كل من خالف معتقداتها.

في حال الباحث الفلسطيني في المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، لم يكن تعليق عمل بروفيسور شلهوب-كيفوركيان هو بداية هذا التدهور، إنما ذروته. فعملية إنتاج المعرفة في جوهرها يجب أن تكون عملية تحررية، تحررنا من الجهل وتحررنا من كل ما هو سيئ وضار للبشرية وللعالم. تحكُّم المؤسسات السياسية والاقتصادية بعملية إنتاج المعرفة ينتقِص منها، وعادةً ما يتم هذا بشكل تدريجي. وكلما امتنعت المؤسسات السياسية عن التدخل في حرية التفكير والتجريب والإبداع للباحث، كلما زادت الجودة العلمية وبطبيعة الحال ازداد التنور العام والتقدم الحضاري. كذلك، كلما تحررت المؤسسات الأكاديمية من معايير السوق المادية التي باتت تطغى على طبيعة عملها في السنوات الأخيرة، كلما زادت جودة الإنتاج. 

إنتاج المعرفة التحرري في السياق الفلسطيني له أهمية كبيرة ومضاعفة، وهو أمر مصيري وحاسم في علاقة الباحث الفلسطيني مع المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية. هو الخط الفاصل بين المعرفة التقدمية التنويرية وبين المعرفة التي تخدم المؤسسة وتعزز من سطوتها. للأسف الشديد، بشكل تصاعدي وعلى مدار العشر سنوات الأخيرة وربما أكثر، زادت المراقبة السياسية وزاد التدخل السياسي في العملية التعليمية وزاد التأثير الخفي وأحيانا المباشر في عملية إنتاج المعرفة. وليست هذه بأمور جديدة على الأكاديمية الإسرائيلية، لكن حتى اليوم، استطعت أنا بشكل شخصي وكذلك العديد من الباحثين الفلسطينيين العاملين في المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، الحفاظ على مساحة مناورة مقبولة نوعًا ما. 

تعليق عمل شلهوب-كيفوركيان يمثل رسالة تهديد وترهيب مباشرة لكل باحث فلسطيني في هذه المؤسسات، مفادها اننا جميعًا معرضين لعمليات تعليق مشابهة إن لم نرضخ لمعايير وتوقعات المؤسسة.

 
ماذا اطلب؟

في رسالة قدمتها إلى رئيسة قسم علم الإنسان في جامعة حيفا، طلبت منها ضمانات تقدمها الجامعة لحماية حريتي العلمية من سطوة المؤسسة السياسية، فهذه الحرية العلمية هي ضمانًا أساسيًا لنزاهة عملي الأكاديمي. هذا الى جانب الحاجة الى ضمانات تحمي حريتي في التعبير عن ما قد توصلت أو قد أتوصل اليه من ملاحظات وتقييمات وبصيرة متعلقة بالمواضيع التي انكببتُ على دراستها.

حاليًا لا يوجد في جامعة حيفا، وعلى ما يبدو في الجامعات الإسرائيلية الأخرى أي ميثاق يحمي الحرية العلمية للباحث. بناءً عليه وفي هذه الظروف المظلمة التي تحيط بنا، أنا شخصيًا لا أستطيع مباشرة دراستي العلمية، حتى وإن كلفني هذا خسارة شخصية واثمانً مادية باهظة. "فما من أحد يوقد سراجًا ويضعه في خفية ولا تحت المكيال، بل على المنارة كي ينظر الداخلون النور" (إنجيل لوقا 33:11).

حتى كتابة هذه السطور، لم أتلق أي رد من الجامعة على الرسالة التي وجهت إليهم بتاريخ الثاني عشر من آذار، على أمل أن يكون هناك اهتمام بكبح هذا التدهور الذي وصلنا اليه، وإلا فلا مفر لي إلا أن أبحث انا أيضًا عن بيت يلائمني.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق